معتز بالله عبد الفتاح يكتب| هل ممكن أن ننهض بلا أخلاق؟
هل فكرنا مرة فى هذا السؤال: فى آخر مائة عام، تعاقب على حكم مصر نظم ملكية وجمهورية، ليبرالية واستبدادية، مدنية وعسكرية ومع ذلك لم نزل متخلفين؟ هل المشكلة فى من يَحكم أم فى من يُحكم؟ تعالوا نحاول الإجابة عن هذا السؤال بالعودة إلى أصل الموضوع وهو مدى توفر المقومات الأخلاقية للنهضة؟
الأصل فى الأمور أن الأخلاق هى مجموعة من المبادئ والقيم، التى يلتزم بها صاحبها بغض النظر عن العائد المادى أو المعنوى المرتبط بها. بل إن قمة التزام الإنسان بالأخلاق تتجلى فى أن يلتزم المبدأ حتى وإن تعارض مع المصلحة، فيتقن ذو الخلق عمله، سواء كان صاحب العمل حاضرا أم غائبا.
وللفلاسفة إسهامات جمة فى تحديد مصادر الإلزام الخلقى. وقد أجملوها فى مصادر أربعة أساسية. أولا العقل، فعقل الإنسان يجعله يفكر فى أنه من مصلحته المباشرة أن يلتزم بالمبادئ التى لو خالفها، فسيخالفها الآخرون حتى لا يقع فريسة لبطش من هو أقوى منه. وبالتالى أنا لو رفعت صوت الموسيقى من بيتى، فهذه رخصة للآخرين بأن يفعلوا المثل، ولما ارتاح مريض قط. ورائد هذه المدرسة بامتياز فى الفكر الغربى «كانط»، وقد سبقه فى الفكر العربى «ابن رشد» و«ابن سينا».
وهناك مدرسة أخرى ترى أن المصدر الرئيسى للإلزام الخلقى هو المجتمع؛ فحينما يتراضى مجتمع ما على مجموعة من القيم والمبادئ، فإنها تصبح أخلاقه وبمثابة الهواء الذى يتنفسه، فلماذا لا أذهب إلى الجامعة بلباس النوم الرجالى رغما عن أنه يستر كامل العورة؟ لأن المجتمع تراضى على أن ملابس النوم للمنزل وليست للعمل. وهكذا، فحينما تسرى فى مجتمع ما ثقافة ختان الإناث مثلا فإن المجتمع يجعل من هذه العادة خلقا من يحيد عنه فقد أخطأ. ويرى أنصار هذه المدرسة أن قوة المجتمع أقوى من قوة العقل كمصدر للإلزام الخلقى، إلا إذا كانت هناك قوة تملك أن تحول العقل وما يمليه إلى قوانين مكتوبة ونافذة فى المجتمع. وعليه فإن قال المجتمع بعادة ختان الإناث فإن العقل، مترجما فى قوانين الدولة وحسن إدارتها لأدواتها، يقف للمجتمع رادعا ومقوِّما.
ومن هنا جاءت مقولة «الحاكم المستنير». فاستنارته لا تفهم إلا فى ضوء أنه لا يعتبر نفسه أسير المجتمع الذى يحكمه، وإنما هو مصلح له مستخدما سلاح العقل وأدوات الإكراه المشروع التى تملكها الدولة.
وهو ما جعل فريدريك الثانى فى روسيا، وجورج واشنطن فى الولايات المتحدة، ومحمد بن طولون ومحمد على فى مصر أقوى من المجتمعات، التى عاشوا فيها وكانوا إضافة لها حين غيروها. وهو ما نفتقده فى مصر الآن بوضوح.
بيد أن يحيى حقى أشار فى روايته العبقرية «قنديل أم هاشم» لقصة الدكتور إسماعيل الذى ذهب إلى الغرب ليتعلم فنون طب العيون وعاد إلى بيئته، التى اعتادت على علاج أمراض العيون بزيت القنديل، قنديل أم هاشم، تبركا وأملا فى الشفاء. وهنا كان الصراع بين مصدرين من مصادر الإلزام الخلقى: العقل ممثلا فى العلم، والمجتمع متمثلا فى الخرافة. وقد اصطدم العلم بالخرافة، وكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته ظنا من العامة أنه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل. لكن العالم الحق حكيم يعرف أن من واجبات العلم أن يستوعب الخرافة ليقضى عليها. وقد فعلها بطل «قنديل أم هاشم» بأن وضع العلاج الطبى السليم فى زجاجات تشبه الزجاجات، التى كان يضع فيها المخرفون زيت القنديل وأوهم الناس أو هكذا فعل، أنه يعالجهم بزيت القنديل. وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذى أتى به وللعقل الذى يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع فى زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والعقل، وهكذا فإن للعلم بيئته التى تحترم العقل ابتداء، فمحاولة استخدام العلم فى علاج مشكلات مجتمع لا يحترم العلم، هى محاولة غير علمية بل وغير عقلانية فى حد ذاتها.
إذن فالعقل كمصدر للإلزام الخلقى ينبغى أن يقود المجتمع، لكنه لن يفعل إلا إذا حكم وساد وسيطر على أجهزة الدولة والمجتمع معا حتى يواجه قرونا من الخرافة والغيبيات اللاإيمانية.
وقد لاحظت خللا بنفسى مع طلابى فى الجامعة حين أرى فيهم اتكالية ابتدعوها ونسبوها ظلما للإسلام. وقد كانت قضية «القوة التدميرية للحسد» مناطا للنقاش مع بعضهم. فتساءلت: هل يمكن أن نرسل إلى إسرائيل 100 حاسدة فيدمرنها بنظرات العين وكلمات اللسان؟ ولو كان هذا الاختراع مقبولا، فلماذا لم يكتشفه غيرنا من أبناء الحضارات الأخرى؟ الحسد موجود ونؤمن به كمرض من أمراض القلوب، كما نص القرآن الكريم، أما إذا لم يتبعه صاحبه بكيد وفعل يحول الشعور الذاتى إلى طاقة تدمر الآخرين فلا قدرة له على التدمير أو النيل منهم، وإنما يظل شعورا يأكل صاحبه، حتى وإن ساد فى ثقافة المجتمع ما يشير إلى غير ذلك. فيضع صاحب السيارة الجديدة خرزة زرقاء أو صندلا قديما كى «يأخذ العين».
وهناك مصدر ثالث للإلزام الخلقى وهو ما يسميه البعض بالحاسة الخلقية أو الضمير. وهو أقرب إلى آية من آيات الله فى خلقه، فيجعل لديهم شعورا بعدم الارتياح لفعل ما. كما جاء فى الحديث الشريف: «الإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، وهو ما جعل أهل العلم يفسرون الحديث الشريف «الحلال بيِّن والحرام بيّن» بأن القطة مثلا إذا أعطيتها قطعة لحم فإنها تقف بجوارك لتأكلها فى شموخ صاحب الحق، أما إذا سرقت منك هذه القطعة من اللحم فإنها تجرى مسرعة لتختبئ شعورا منها بأنها ارتكبت فعلا لا أخلاقيا. وهذا ما يقوله أنصار هذه المدرسة مثل باتلر وشافتسبراى والكثير من الصوفية بأن الأصل فى الأمور «النفس المطمئنة».
أما المصدر الرابع من مصادر الإلزام الخلقى فهو الدين، أى دين. فالدين يرسم لأتباعه خريطة من الفروض والمستحبات والمباحات والمكروهات والمحرمات، ويجعل فى المحرمات ما هو من الصغائر وما هو من الكبائر، ويجعل من الفروض ما هو ضرورى على كل فرد من أفراد المجتمع (فرض عين مثل الصلاة) أو فرض كفاية يقوم به البعض دون البعض الآخر (مثل التخصص فى مجال معين من مجالات العلم).
والدين، سواء كان أرضيا أو سماويا، له تأثير كبير على المؤمنين به. ويكفى أن ننظر إلى المعاناة الشديدة، التى يعانيها الحاج سفرا وسعيا وطوافا ومبيتا ابتغاء مرضاة ربه الأعلى الذى وعده أنه سوف يرضى. ويروى التاريخ تفاصيل تحول العديد من الشخصيات العظيمة من الكفر إلى الإيمان. فما الذى دفع عمر بن الخطاب إلى أن يتحول من معاقر للخمر يحبها ويدمنها إلى رجل «كأنه يرى الله بعينيه» كما وصفته امرأة تقدم لخطبتها فرفضته؟ بيد أن الدين فى ذاته احتاج دائما للسلطان القاهر بجواره حتى يردع من لا يبلغ الإيمان منهم مبلغ اليقين. وعليه قال أبوحامد الغزالى: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أى إن الله يردع بالقانون من لا يقبل أن يردع بالخوف من الله. والأصل فى الأمور أن تتضافر مصادر الإلزام الخلقى حتى تكون الرسائل الاتصالية المقبلة من الدولة ومن دور العبادة ومن الأسرة ومن أجهزة الإعلام متسقة تحمل نفس القيم، فتتحول اللوائح والقوانين إلى قيم وعادات يتقبلها الناس ويعيشون عليها، وهو ما لمسته مثلا حين زرت اليابان مؤخرا.
أما فى مصر، فلقد فقد المجتمع بوصلته على نحو يجعلنى أتأمل من وما الذى يحدد للإنسان المصرى الخير والشر، الحلال والحرام، المقبول والمرفوض، الصلاح والفساد.
كيف لى أن أقنع الناس بالتزام القوانين واللوائح فى حين أن القائمين عليها أنفسهم يستخدمونها لتحقيق مآربهم الشخصية؟
إننا كمصريين ندفع مليارات الجنيهات فى تكرار الحج والعمرة ولا نعيد توجيه أولوياتنا لبناء المدارس والجامعات، التى هى لا شك فريضة أكثر من نافلة تكرار الحج والعمرة.
فلنتحفظ على أداء من يحكمنا وكل من حكمونا فى آخر 100 سنة، هؤلاء متغيرون ولكن هناك ثابت واحد: نحن لم نزل متخلفين. ولا يمكن تفسير الثابت بمتغير ولا تفسير المتغير بثابت. أظن أننا نعانى من مشكلة كثرة فى الخَلق وندرة فى الخُلق وهى ثابت يمكن له أن يفسر لماذا تتغير النظم والحكومات والرؤساء ولم نزل متخلفين. ومن يحكم مصر ولا يعمل على إعادة تأهيل الشخصية المصرية لتكون أكثر أخلاقية، فهو غالبا يفعل الأصلح وليس الأصح.