تبدل الزمن و تاهت كثيرمن ذكرياتنا و سط ركام الماضى البعيد و القريب ،طاردتها الحداثة و أردتها قتيلة فى قريتنا ، التى ضربها إعصار المدنية ،حتى جرف ماضيها ..فالبيوت الطينية المسقوفة بقش الأرز تعلوها أبراج الحمام المنتصبة القامة ،الشامخة كأنها تناجى السماء ، لم تعد تشغل غير مساحات ضيقة فى ذاكرة أهل القرية ، الذين هجروها و ركبوا البحار، و عادوا ببنايات شاهقة ألوانها زاهية ،لكنها تغضب العيون . حتى الترعة التى تشق قلب قريتنا اختفت ، لهذه الترعة ذكريات سأقص لك حكايتها ،سنسافر معا ممتطين آلة الزمن لنعود إلى الوراء، زمن الأبيض و الأسود ..على حرف هذه الترعة كان يربض كوخ من الغاب و الطين ، يغازل ماء الترعة المار بجواره ،تسكن فيه الست عبير ،ألمح فى عينيك استغراب من الاسم ،سأردد على مسامعك ثانية ..نعم كان اسمها هكذا ،أقدر اضطراب أفكارك فالاسم كان أعجمياعلى قرية ،يسكنها أسماء مثل ست الدار و حمدية و علوية و فوزية ،استطيع أن أوكد لك صديقى صحة الاسم ،لكن من المستحيل أن أعرف كيف سميت بهذا الاسم ..لنتجاوز الاسم و لنعد إلى الست عبير الإنسانة بشحمها و لحمها ،لانعلم من أين أتت إلى قريتنا الساكنة الهادئة ، و لانعرف لها أصلا و لا فصلا ،يقول البعض أن الست عبير جاءت إلينا من المدينة الرابضة فى حضن النهر ،لكنها على كل حال ليست معلومة مؤكدة . أتت إلينا الست عبير كالغزاة ،و سكنت الكوخ على شط الترعة ،فأصبح هذا المكان من المحرمات على أهل قريتنا ،لا يمرون بجوار كوخها إلا حينما يشيع أحدهم إلى العدم ، و فى الظروف القاهرة ، مع هذا حين كانوا يمرون بجواره ،كانوا يغضون الطرف بعيدا عن الكوخ ، خصوصا بعد ماحصل لأبوالوفا ،الذى تجرأ و لمح بطرف عينيه شبح رجلا بداخل الكوخ، فوقعت عينى الست عبير على أبوالوفا ،فنال من لسانها عقابا أليما .. الست عبير .. اسمعك تقول فى عقل بالك لماذا تلحق الست قبل عبير ؟؟ أصدقك القول لا أعلم لماذا ،رغم مرور تلك السنوات ،مازلت أخشى من قول عبير دون الست ، فهذه المرأة كانت موهوبة بكل ما تحمل تلك الكلمة من معان ،كنا نشاهدها و نحن صغارا وهى تسحب أنفاسا من الجوزة و تخرج سحب الدخان المتعاقبة من فتحتى أنفها ،مغلقة فيها و عيناها ،فكان الدخان يتطاير كأن حريقا اندلع فى ديار القرية ، و لا أجدع رجل فى قريتنا يستطيع حتى أن يتخيل نفسه يشرب الجوزة كتلك الموهوبة . تعرف القرية كلها أن الست عبير تبيع الهوى على شط الترعة ،و يرون الزبائن يتوافدون عليهاى من كل حدب وصوب ،كأن كوخها أصبح مولدا يأتيه الزوار ،مع ذلك يتحاشى الجميع الخوض فى عرضها ، فأهل قريتنا يعلمون أن الست عبير لديها بصاصين فى القرية ينقلون لها الشاردة و الواردة .. ذات يوم بعد انتهاء صلاة العشاء ، و بعدما صافح الشيخ عوضين المصلين ،همس بصوت خافت مينفعش اللى بيحصل ديه يا أهل البلد ..و الله حرام كده .. هنفضل حاطين الجزمة فى بؤنا لحد امتى . الحقيقة تقال لم يخدش الشيخ عوضين سيرة الست عبير ببنت شفه ،لكن متولى أبوشديد (الله يسامحه) نقل كلام الشيخ إليها ،فأتت الست عبير مسرعة ترتدى عباءتها اللف ، و كان الشيخ خارجا من الجامع، فأمطرته سبابا و لعنا ،هطل على رأس المسكين ،لم تكن الست عبير ذات وجه مكشوف فقط بل جسد كله مكشوف ،فليس لديها سقف أخلاقى ..حاول الشيخ تلاشى النظر إليها ،فأمسكت بتلابيبه و زعقت بصوت زلزل المكان من قوته ايه يا دلعدى يا سي الشيخ ، كنت بتقول ايه؟ ثم أطلقت ضحكة رقيعة مسرسعة ثم شخرة أحدثت صوتا كأن لغما انفجر فى قريتنا ، تلتها شخرات متعاقبة بأصوات متدرجة أحيانا أقوى و أحيانا أضعف ..ثم أزاحت عباءتها فبدا جسدها كيوم ولدتها أمها ،هرول الرجال و النساء بعيدا بخطوات متعثرة فى الخجل ،و حاولت ساقى الشيخ ركوب الريح ،لكن الست أحكمت قبضتها عليه ،و زعقت بصوت رج بيوت القرية بتقول علي ايه يا شيخ عوضين …اسمك عوضين يا دلعدى ..ده انت محصلتش ربع عوض ..تبعتها ضحكة خليعة بصوت رفيع آه كل هذا يحدث منك يا شيخ الجامع !! يا عيب على الأيام ، إنها علامات الساعة يا ناس ..معقولة شيخ الجامع ..معقولة الشيخ عوضين . ألمح سؤال فى عينيك يلعنى، لأنى لا أسلك أقصر الطرق فى القص .. فى الحقيقة يا صديقى لا أعرف كيف ابدأ حكاية الشيخ عوضين مع الست عبير ، و لكن سأتخذ من عبارة (لا حياء فى الحكى ) درعا يقينى شر البعض و سأحكى تزوج الشيخ عوضين أكثر من مرة ، كلها كانت زيجات من خارج قريتنا ، ولكن أمد تلك الزيجات لم يكن يتعدى شهور ، و نستيقظ على خبر طلاق الشيخ عوضين لزوجته الغريبة.. حتى تزوج محروسة بنت أبوإسماعيل ، واستقر زواجه بها دون ثمرات ، كنا نعلم أن محروسة هى السبب، فهى امرأة كالأرض البور .. كان لدى محروسة ذات الجسد الذى يشبه عود القصب المصوص شىء من الدهاء، فسربت معلومة لنسوان البلد أن الشيخ عوضين ضعيف.. ألمح الفضول يكاد يهشم رأسك من تلك الكلمة ..صبرك يا صديقى لا تكن عجولا، و انتظر لأجمع شتات كلماتى الخجولة لأكمل حكاية هذا الرجل (الضعيف) ..اتنشرت المعلومة فى القرية كالنار حين تندلع فى قش الأرز ،حتى وصلت إلى مسامع الشيخ ،حين تهكم عليه متولى أبوشديد ،و الشيخ على المنبر ،و قال بصوت سمعه جميع من فى المسجد الشيخ عوضين بيربى لحم زى الخروف المخصى .. ههه انفجر الناس بالضحك و رد أحدهم ساخرا عشان ندبحه ع العيد ..ههه و قف آخر مقاطعا الشيخ و هو على المنبر عايزين خطبة عن حقوق النسوان الشرعية ..ههه عاود الناس الضحك و لوح له الشيخ بيديه بالجلوس متظاهرا ، كأنه لم يسمع لم يعد للشيخ (وش) ليتطلع به فى عيون الناس التى أكلت وجهه .. حتى نصحه أولاد الحلال ..ليجرب حظه مع الست عبير ،بدلا من زوجته عود القصب الممصوص، التى تنام فى الفراش كأنها هم الموت ..فالست عبير لها من الحيل ما تعجز عنه العفاريت، حين تتلوى كالحية فى قميصها ،فينطق الأخرس و يبصر الأعمى ..هكذا نصحه ابن الحلال ..استجاب الشيخ للنصيحة بعد تردد طويل .. و ذهب إليها مستورا فى جلباب الليل .. ماذا تفعل يا شيخ عوضين ؟؟ عد إلى دارك يا ابن الكلاب .. تنهى الناس عن الزنا و تهوي أنت فى بئره ..ستأكل النار جسدك ..إلا الزنا يا عوضين .. هكذا كان يحدث مولانا نفسه وهو ذاهب إلى الكوخ ، حتى أدار عقبيه ، ليرجع إلى داره ،لكنه تذكر ضحكات الناس فى الجامع و سخريتهم منه،فاشتعلت بداخله رغبة التجربة طردت الست عبير كل زبائنها ، و تفرغت للشيخ ..فاليوم لعمل الخير و مساعدة الرجل ( فيها الخير الست عبير ) دخل الشيخ عوضين الكوخ بخطوات متعثرة فى خجله ، و دون أن ينطق ، استقبلته الست عبير بابتسامة خفيفة على محياها ليطمئن، اختفت رقبة الرجل من الخجل..أعدت الجوزة و حجرين الحشيش المخصوص، و تبادل معها الشرب على مضض ،حتى كانت اللحظة الحاسمة .. لحظة الحقيقة ..دنت الست عبير منه بعدما خلعت عنها عباءتها و ألقت بجسدها فوق الفراش .. أرجوك يا صديقى لا تطلب منى أن أحكى لك تفاصيل تلك اللحظات التى انتهت بفشل الرجل .. بعد ذلك الاختبار المؤلم عاد الشيخ إلى داره يحمل أثقال الخيبة ،زاد همه و كمده و تغيرت خطبه ،لم يعد يحدثنا عن الزنا و عن العقاب الشديد الذى ينتظر من يقترب منه .. كان يحثنا على عدم الخوض فى الأعراض ، و يزيد فى قصص النساء الزانيات اللاتى تاب الله عليهن..فباب التوبة مفتوح .. لكن دماء الغيرة على قريته كانت تلدغ عروقه كالثعابين ،فقال كلمة بعد الصلاة ، لم يمر بجوار الست فيها ، تلقفها كبير البصاصين ،و نقلها أحكمت الست عبير قبضتها على قريتنا ،فالقرية تهاب الفضائح و الست كانت عينها مكشوفة ، لا تتورع أبدا عن نزع عباءتها على رؤوس الأشهاد ..لكن لا يفل الحديد إلا الحديد ..كما أتت الست عبير إلى بلدنا و أقامت كوخا على شط الترعة .. أتت الست أمل من المدينة أيضا ألم أقل لك لا تكن عجولا، و ترسم صورا لأشخاص دون سابق معرفة ، ألمح فى رأسك صورة لها كأنها أميرة إغريقية يداعبها صوت أم كلثوم و هى تغرد( أمل حياتى ).. انفض عنك غبار أفكارك ،و انتظر فالست أمل لم تكن أقل قبحا من الست عبير .. أقامت الست أمل كوخا على شط الترعة الآخر فى مقابل كوخ الست عبير .. كنا نجلس على شط الترعة و نحن صغارا فى فريقين .نتنظر حين تندلع بينهما معركة على زبون ،فتبدأ كل منهما بإلقاء السباب و اللعنات على الآخرى.. و الحق يقال لقد كانت الست عبير أكثر خبثا ،فهى تطلق شرارة المعركة ،و تتوقف حتى ترهق منافستها ،فتواصل هى .. كملاكم ماكر يحيط وجهه بقفازه ،حتى تخور قوى منافسه فيجهز عليه .. لكن الست أمل (الغشمية) تبدأ بالخطوة الأخرى ،و هى مرحلة الشخر ،فتخرج من فيها الشخرات متعاقبة ،كأنها تخرجها من باطن قدميها ..يستمتع أهل القرية بتلك المباراة اليومية التى تبدأ بينهما و لا تنتهى ، لكن الاستمتاع يصل ذروته حين تخلع إحداهن عباءتها و تشير بيديها ناحية منافستها التى ليست أقل منها إباحة ،فتخلع الأخرى ،و تبدأ مرحلة جديدة هى مرحلة المعركة العارية.. فى تلك المعركة الحاسمة ، تستخدم كل منهن مهاراتها التى تجيدها ، الست عبير ليس كمثلها أحد فى الردح ،فقاموسها من الشتائم لا ينضب ، تتدفق الشتائم الموسيقية من فيها دفعات متعاقبة ، تبدأ بما يمكن سماعه و تنتهى بما لا يطاق ، لكنها كأى موهوب لديه نقاط ضعف .. نقاط ضعف هى فى حد ذاتها نقاط قوة غريمتها الست أمل ،ذات الجسد الممشوق و الصدر الناهد ، تعلم الست أمل أن معركة الردح خاسرة ،لذلك تستعجل المرحلة الآخيرة ،حينها تخلع عنها عباءاتها ،كأنها تتحدى غريمتها أن تفعل مثلها ، بالطبع الست عبير عينيها يندب فيها رصاصة ، لكن جسدها المترهل و كرشها الكبير يقفان سدا مانعا أمام انتصارها ، مع ذلك تضطر مرغمة على الخلع ،فقانون الصراع يحتم عليها ذلك ،و إلا احتسبت الجولة لصالح منافستها ..