موقعة الكلب: قصة قصيرة لم تنشر للكاتب الراحل محمد مستجاب
موقعة الكلب: قصة قصيرة لم تنشر للكاتب الراحل محمد مستجاب
حاولت جادًّا أن أستبقي سائق السيارة ليتناول الشاي أو يأكل لقمة، شكرني بعد أن ساعدني في توصيل الحقيبة حتى الباب.. كان المشهد مذهلاً..
البحر يتمدد في زرقته حتى يلثم السماء في زرقتها، والمياه الناعمة تدفع بموجات صبيانية تعابث الرمال الطيبة، والبيت كالكوخ قابع على مسافة أمتار من البحر، يفتح فمه مبتسماً بشرفة واسعة تصلح للسمر الصيفي المرح، غرزت المفتاح في قلب الباب، تجاوب معي مفتوحاً بسرعة غير مسبوقة، وضعت حقيبتي جانباً كي أستطلع تكوينات الكوخ، لوحات على الحائط وتمثال يعدو، واضح أن روح الفن تغمر المكان، قال صديقي الفنان صاحب الكوخ: سوف يأتيك من يخدمك ويساعدك فور وصولك.
كانت الشمس قد مالت غرباً، والنسيم عليلا، وطازجاً، وجميلاً، سحبت مقعداً خفيفاً، وجلست في الشرفة الواسعة، أراقب عدة غيمات تتجمع كي ترحل، قبل أن أعود للتفكير في هذا الصمت والجلوس على الساحل، أخر الأثر الأفريقي قبل أن تغرقه مياه البحر، وظلت الأكواخ المتناثرة على الساحل تريق الإحساس بالوحدة والشجن، أكاد أزعم أنه لا يوجد سواي في هذا المكان الجميل، وكانني أقف على حافة الكون وبداية الحياة.
كانت ملابسي قد تجاوبت مع النسيم حينما جاءت صرخات صبيانية من بعيد، ربما هي الأصوات الأولى منذ رحيل السيارة التى أقلتني، وضاعت الصرخات ثم لم تلبث أن عادت، وكانت السحب قد دارت حول الشمس كأنها تسحبها عنوة نحو الغرب، بعدها كانت الصرخات قد اقتربت أكثر، فاضطررت أن أقف مستطلعاً، مجموعة من الصبيان يطاردون كلباً، لم يكن كلباً، كان جرواً، أو كلباً مراهقاً، أي بين الجرو – والكلب، العيال يجرون خلفه ويطاردونه، وفور الإمساك به يقذفون به في الماء، فيظل يعوي ويزوم ويبكي ويهابر ويثابر ويتوسل حتى يعود إلى الشاطئ، مبتلاً، لا يكاد يصل وينفض عنه قطرات الماء، ويستعيد قدرته ليجري، حتى يهرع إليه العيال الصارخون..
ناديت بأعلى صوت عليهم، كانوا يقتربون أكثر حينما توقفوا قليلاً ثم لم يلبثوا أن عادوا للمطاردة، والكلب يزوم ويعوي- هذه أجيال بلا قلب- نزلت حافياً أجري على الرمال كي أحول بين العيال وبين استمرار قصف الكلب، وكانت الموقعة مرهقة، عيال خارج دائرة المسئولية وقد شحنوا بكل شراسة منتجات التليفزيون والكتب والمدرسين والأهل والبيئة وأشواك الأرض، لكني استخدمت كل خبرات الهيمنة: لعنت وصرخت وأثرت القيم الإنسانية، فتوقف العيال عن اللحاق بالكلب ومطاردته، وأمعنوا قليلاً في وجهي، ثم سخروا مني، ولم يلبثوا أن تفرقوا..
سعيدًا حينما يحالفني الحظ في عمل إنساني، ولا سيما الأعمال المجانية، تلك التى انتهت – كما أحب تماماً.
عدت رائق الجوانح إلى مجلسي في الشرفة استعدادًا لتوديع شمس الغروب، أحسست برغبة في كوب شاي، ذهبت إلى المطبخ فأشعلت موقدًا كهرئياً، وكانت زوجتي بناء على نصيحة صديقي الفنان – قد زودتني بالشاي والسكر واللبن، وحين عودتي بكوب الشاي للشرفة، أسعدني أن الكلب الجميل البريء الضحية المطارد قد أقعى قريباً من الشرفة، عيونه تتابعني وكان يزوم، أشرت إليه فتردد في التجاوب معي، بعض بقايا مأكولات السفر تصلح له وبالفعل ما كاد يرى – أو يشم – حتى خرج عن إقعائه وحرك ذيله في بُشر وسعادة، أحسست بالونس والألفة، أزعم أن أول حيوان استأنسه آدم أو قابيل أوهابيل كان كلباً، ولماذا كان أهل الكهف الذين ظلوا مطمورين في العالم الغامض أكثر من ثلاثمائة عام، يصطحبون كلباً؟
اقترب الكلب اللطيف من ورقة بقايا الأكل، ورائحة الشاي نفذت إلى خياشيمي، والشمس ابتسمت في تخاذل المغيب كأنثى تشير إلى مخبئها الفاتن، وكانت إحدى السحب قد سبقت قرص الشمس وظلت واقفة تنتظره، قفز الكلب إلى الشرفة، وأقعي قريباً مني، فابتسمت له، إنه هدية السماء لي، سوف يطارد من يفكر في تعكير هذا السكون، على الأقل سوف ينبهني إلى من يفكر في مداهمتي، وأشرت له، فاقترب، زام بعيون باكية فازددت شجناً وحبوراً، لكن الشمس بدأت تصحب النور كله إلى حيث اختفت وراء الغمام.
*****
كنت مبتهجاً من مداعباتي له، ومداعباته لي، والبيت مبتسماً وهو يرقد على حافة رمل البحر في هذا الفراغ الصامت الفاتن، لكني كنت مرهقاً، وتمنيت لو أن أحداً لن يأتي حيث ولجت الكوخ، أغلقت الباب خلفي، غيرت ملابسي، وكان الفراش مرتباً، وكنت سعيداً حينما أطفأت النور، وشربت قليلاً من الماء، ولذت إلى الفراش، كنت منهكاً فسرى الخدر في تفاصيلي، وأغرقت في النوم قليلاً، حينما جاءني هذا الصوت الحزين، نباحاً ممطوطاً ممدوداً يكاد يشابه الصراخ الملتاع لنساء الجنازات، أصخت السمع، كان الكلب يعوي هذا العواء اليتيم المترمل المشرد منذ آلاف السنين، الذي يسري من بين فواصل النوافذ، ثم يعود فيختفي قليلاً ويعود ليسري من الباب، بل وثمة خربشة أظافر في الباب، وجسدي مرهق، والنوم خلخل أعصابي، فلم أر بداً من الصراخ- من فراشي – فيه كي يبتعد، داهمتني ارتجافه وخوف قديم أيام كان أبو رجل مسلوخة يناديني من وسط سقف بيتنا، لكن الكلب عاد إلى العواء، ثم النباح، ثم إلى خربشة الباب، فقمت مندفعاً حيث فتحت الباب، فتراجع الكلب إلى الخلف وبدأ يلعب بذيله..
كان القمر الفاتن قد شمل المنطقة كلها بالسكون والهدوء والفتنة والنجوم تلتف حوله تشاكسه، وأعماق البحر السوداء تدفع بالموجات الصغيرة البيضاء كي تصل إلى منطقة الرؤية وتتكسر على بوادر الرمال، والكلب تراجع للوراء خطوتين، ثم تحرك وكاد يقف بين أقدامي..
خشيت أن يكون بجسده حشرات فلم أجرؤ على حمله بين ذراعي، طلبت منه أن ينام في أي مكان – الشرفة تصلح لذلك، وقلت له إنه – أي القمر – خلق للصمت وبدأ يعابثني، طبطبت على جسده ورقبته وأمرته أن يسكت، ودخلت البيت وأغلقت الباب.
لكنه عاد للنباح، وعاد لخربشة الباب، وعاد للف والدوران حول البيت، قلت سوف يرهق أحدنا وينام، اضطربت دماغي، فأشعلت سيجارة وجلست على الفراش، وسيجارة أخرى حتى ينتهي من نوبة نباح جديدة، بحثت عن بقايا مأكولات وخرجت إليه- نصف غاضب، ألقيتها إليه وأنا أحذره وأنذره، فنظر إلى يدي وتقافز، كان سعيداً لأني خرجت إليه، وكنت ضيق الصدر، وحينما أغلقت الباب خلفي في قوة، أحسست أن الأمر لا يعالج بهذا الحمق، إذن.. كيف أعالج الأمر؟ لو أني أملك سموماً لوضعتها له فى الأكل.
لذت إلى الفراش بعد أن دست بأصابعي على بقايا السجائر، وبدأت أنظف عقلي من اضطرابه، دقائق لا تزيد، بعدها جاء العواء الذليل الذي ينشب أظافره في أعصابي، كانت المساحة الصوتية للكلب قد اتسعت وأصابها الشروخ مما زاد تأثيرها، اندفعت إلى مكنسة ذات ذراع طويلة، رفعتها بين ذراعي في وضع الهجوم الكاسح، واخترقت الباب، لأجده أمامي منهمكًا في عوائه، لكني لم أضربه، لم أستطع أن أهوي على دماغة بالمكنسة، إنما هششته، فجرى بعيداً، وقفز من الشرفة إلى الشاطئ، ووقف يضحك وقد أعاد طريقة نباحه لتصبح ذات صدى يتردد بعيداً فابتلع سكون القمر وصوت أمواج البحر.
نهرته ألا يعود، ودخلت البيت، لكن النباح عاد إلى العواء الذليل، عواء يسحب خلفه كل ما يقلق وكل ما يرهق، فعدت إلى فراشي دون جدوي، واغتسلت في الحمام حتى أنشط وأعود فأسترخي، لكن العواء لم يتوقف، كان الكلب يدور حول النوافذ كأنه يبحث عن أقربها لي، وكنت أستعرض وسائل معالجة الموقف، هل أسمح له أن يدخل البيت؟
هل – عند ذلك – سوف يتوقف عن العواء؟
بالفعل قمت إلى الباب حنوناً رحيماً فاتحاً ذراعي وعقلي وقلبي، لكنه جرى بعيداً، أشرت له أن يأتي ليشاركني البيت من الداخل، فظل واقفاً ينبح، تركت الباب مفتوحاً ليدخله متى أراد، أليس من طلباته مشاركتي في البيت، ها هو الباب مفتوح، ظللت نائماً على الفراش وعيوني على الباب المفتوح، ذلك الذي دخل منه الكلب متسللاً في هدوء وظل يسير حتى وصل إلى الفراش، حينئذ أقعي قريباً مني وعيونه ممعنة في وجهي.
الموقف الآن واضح: الكلب يقعى على ذيله، والأنوار كلها مضاءة، والباب مفتوح، وأشرت له أن يطمئن ويهدأ وينام، وقمت إلى الباب لأغلقه فجرى الكلب في أذيالي وبدأ ينبح، قلت له سوف أغلق الباب وأطفئ النور، فزاد من نباحه وبدأ يقفز أمامي، وما كاد الباب ينغلق حتى تحول الكلب إلى وحش- وحش محبوس: يزوم ويصرخ وينبح ويجري للداخل ويعود فيصطدم بالباب، وما كدت أفتح الباب حتى اندفع خارجاً، فشعرت براحة لم أجربها منذ ألف عام، لا بد أنه سوف .. ولم أكمل، فقبل أن أغلق الباب، بدأ نباح الكلب يداهمني من جديد، إنه واضح المطالب، يريدني أن أعيش داخل قوانينه وطبيعته وقدراته، الباب المفتوح والنوافذ المفتوحة وأنا أجري معه لنلعب ونتعابث ثم يتناول شيئاً مما أّكل، وعلي أن يكون نومي مرتبطاً بنومه، وأن تكون طلباتي متسقة مع طلباته، هذه هي حدود الصداقة التى يرومها هذا الكلب الضال الذي لا يريد أن يفهم.
كانت النجوم قد ازدادت تألقاً والقمر يزحف غرباً في طريقة المعهود، وكنت مرهقاً حينما حاولت العودة إلى الفراش، و الفجر يطل على الأبواب، ونجمة الصباح ازدادت تألقاً، والكلب ازداد عواءً.
خرجت من الباب في عنف، واندفعت إلى الكلب، كان يعتقد أنني سوف أداعبه، وحين اكتشف أنني أداهمه كشر عن أنيابه، لكني ألقيت بنفسي عليه، وأخذته في أحضاني، وألقيته على الأرض، صرخت وسببت ولعنت وعويت كي يذهب بعيداً، وتغيرت درجات نباحه إلى أصوات أعلى وأكثر إقلاقاً، فعدت لمطاردته من جديد، واستطعت أن أزنقه وأحضنه واندفع به إلى الماء، وألقيته وسط الأمواج، نفرت منه وردته إليّ بسرعة، لأستقبله في أحضاني والماء يشر من جسده، لكنه هذه المرة عاد من البحر ليندفع بعيداً، وصممت ألا أتركه، وراك يا ملعون، وجريت خلفه، كان واضحاً أن الماء يعوقه عن السرعة القصوى، ففرحت أن المياه تناصرني، وصلت إليه، وقفزت آخر قفزة فكدت أسقط على الأرض، وعدت مرهقاً منهكاً إلى الشرفة، فألقيت بنفسي على سورها، كنت في حاجة إلى مقعد من الداخل، لكن نباحه بدأ يأتي، يداهمني، يحاصرني، قفزت خلفه لأقع فوقه وأتشبث بذيله، وأمسكه بيدي الاثنتين، وألف به وأدور حتى كاد الدوار يصيبني، ثم أفلته من يدي كي يصطدم بالأرض، ويعوي صارخاً في تشرد، وأجري خلفه من جديد، وانفتح ضوء نهار جديد، والناس قد بدأت تتجمع، وكلهم ينادون ويحتجون ويصرخون ويلعنون، فازدادت الأمور اضطرابا، وبدأت أقف لكي أنظر حولي بحثاً عن هذا الكلب، ومتحفزاً كي أمزقه إرباً، كي لا يزعج اليوم الجديد، وصمت الجميع.
بعدها جاء نباحه، فبدأت أستعد لملاقاته من جديد، مع أن الصبح قد فرش الدنيا نوراً، والعيال تمعن في وجهي ساخرين، وملابسي قد بهدلت، والرمال تملأ جسدي.