مجموعة سعودي القانونية

الكاتب: محمود عبد الرازق جمعة
لم أكُن أتوقّع هذا الهجوم العنيف متعدد الجبهات عندما كتبت “فبأيّ آلام الغرام تكذّبان؟”؛ كنت أرى العبارة عادية لا مشكلة فيها، بل كنت أرى أن العلاقة بينها وبين قوله تعالى: “فبأي آلاء ربكما تكذّبان” تزيد عبارتي الشعرية قيمةً، ربما لأن الموروث والجدل معه محبَّب إلى نفسي وإلى نفس طائفة كبيرة من الكتاب.
عندما كتبت القصيدة واجهني كثير من الردود والتعليقات التي كان أخفَّها: “حسبيَ الله ونعم الوكيل فيك أنت وأمثالك”، أو “اتقِ الله، أتستهزئ بكلام الله؟!”.
بالطبع عندما أواجه مثل هذه العبارات يصيبني التردُّد وأتساءل: هل أخطأتُ بالفعل؟ هل استهزأتُ بكلام الله؟ هل تجاوزتُ حدودي مع الله وكتابه؟ إلى آخر الأسئلة التي لا يكون ناتجها إلّا أن أدخل في حوار مع مَن ينتقد النَّصّ، لعلّه يعرّفني ما لا أعرفه، فأسأل عن الأدلة والشواهد التي تحرِّم ما فعلت فأجد: “وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ”.
أتدبّر الآية: “أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟”، لا والله، ما كنت أستهزئ لا بالله ولا بآياته ولا برسوله، بل استأنستُ بصياغة العبارة القرآنية، فصُغْتُ على نسَقِها عبارتي الشعرية.
وأجد: “وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ”.
أتدبّر الآية: “الذين يخوضون في آياتنا”، هل كنت أخوض في آيات الله؟ هل كنت أسبُّها والعياذ بالله؟ أليس الخوض في الشيء هو الإساءة إليه بالسباب ونحوه؟ أنا لم أسبّ القرآن حين كتبت قصيدتي، وليس فيها أي إساءة.
طيب، أين لُبّ المشكلة إذًا؟
لُبّ المشكلة أن بعضنا ينصّب نفسه للدفاع عن الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلّم، كأن كلًّا منهم محتاج إلى الدفاع عنه، فلا يكاد أي شخص يطأ حرَم الدين حتى تُرفَع أسياف الآيات الترهيبية ليتراجع عن “خطيئته”، تلك الخطيئة التي كل مواصفاتها أن هؤلاء الأشاوس “لم يتعوّدوها”! نعم، هم فقط لم يتعوّدوا أن تُصاغ عبارات على نسَق القرآن الكريم، وكلما سمعوا عبارة على نسق آياته ألقوا التهم جزافًا: “يسيء إلى القرآن، يخوض في آيات القرآن، يستهزئ بالقرآن…”، دون أن يتدبّروا، لا في القرآن، ولا في ما يثورون عليه، ولا في أدلّة تحريم ما يحرّمون.
علينا فقط أن نجرِّد المسألة لنحدد ملامحها ونعرف فيمَ نتكلّم.
المسألة كلها أن مسلمًا كتب عبارةً على نسَق أو وزن أو غرار آية أو عبارة أو جملة من القرآن، فهل هذا محرَّم؟
– هل إذا قال قائل: “باسم الشعب المطحون الكسير”، يكون قد أساء إلى القرآن الذي نبدأ سوره بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”؟
– هل إذا قال قائل: “الأكل للطفل”، يكون قد أساء إلى القرآن الذي نقول في فاتحته: “الحمد لله”؟
– هل إذا قال قائل: “نحن نقرأ عليك أجمل القراءة”، يكون قد أساء إلى القرآن الذي تبدأ إحدى آياته بـ”نحن نقص عليك أحسن القصص”؟
وبهذا الأسلوب يمكننا أن نصوغ آلاف العبارات التي تتلاقى مع الجُمَل والآيات القرآنية في التركيب، وتبتعد عنها في المعنى بقدْر، وتقترب منها فيه بقدْر، حتى إننا يصعب أن نجد في القرآن الكريم عبارة واحدة لا يمكن الصوغ على نسَقِها، أو عبارة لا نتكلم بالفعل على نسَقِها كل يوم، فهل نحن واقعون كل يوم في هذا الإثم الشنيع، الإساءة إلى القرآن الكريم، والاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
بالطبع لا، وإذا راجعنا أقوال الصحابة رضوان الله عليهم لوجدنا فيها ما يتلاقى مع بعض عبارات القرآن الكريم، فقول أبي بكر الصدّيق: “إن أقواكم عندي الضعيف” على نفس نسق قوله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
وهل نحن مطالَبون بأن نحفظ القرآن عن ظهر قلب، وكلما نطقنا أو كتبنا عبارة قارنَّا بينها وبين عبارات القرآن لِألّا تكون على نسق إحداها؟ إن هذا لَيشقّ على أي مسلم، بل أظنُّه يشقّ على الرسول صلى الله عليه وسلّم، الذي لا بد أن له عبارات كثيرة على نسَق بعض عبارات القرآن الكريم، ألم يقُل عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالصدق”؟ أليس هذا على نسق قوله تعالى: “عليكم أنفسَكم”؟
وهل بنفس المنطق الديني يمكن أن يكون مَن سمّى فيلم “لا تراجع ولا استسلام” ساخرًا من حديث النبي صلى الله عليه وسلّم: “لا ضرر ولا ضرار”؟
أما إذا كان التشابه بين بعض العبارات وآيات القرآن، أكبر من التشابه بين عبارات أخرى وآيات القرآن، فإن الشريعة الإسلامية لا تعترف بمسألة الكمّ، فما كان كثيره مسكرًا فقليله حرام، وسارق الملايين لص، وسارق الجنيهات لص، ولكل منهما عقاب.
وفتاوى الْمُفتِين تؤكّد أن “الاقتباس” من القرآن الكريم (أخذ النص كما هو دون تغيير)، ليس حرامًا إذا أشار المقتبِس إلى أنه من القرآن الكريم، وأن نثر الكلام على غرار عبارات القرآن الكريم ليس حرامًا إذا لم يكُن لإساءة أو استهزاء بالقرآن الكريم، أو لكلام محرَّم كالغزل الصريح أو الفسق والفجور. وهذا كلُّه -كما نرى- محرَّم، سواء كان على نسَق القرآن عبارات القرآن الكريم أو لم يكن على نسَقها.
إن التلاقي والتشابه وارد بين أي متكلّمَين أو كاتبَين، وما يحفظ القرآن الكريم من التحريف ليس أن نبتعد عنه ونخاف أن نصوغ عبارة تشبه عباراته، بل هو محفوظ بحفظ الله له أولًا، ثم بطريقة كتابته/رسمه المتفرّدة التي لا تشبهها أي كتابة، وبطريقة تلاوته/تجويده المتفردة التي لا تشبهها أي تلاوة، لهذا فمن المحرَّم أن يُقرَأ أي نَصّ بطريقة قراءة القرآن الكريم، وكتابة أي نَصّ بطريقة كتابة القرآن الكريم، حتى لا يظنّ ظانّ أن هذا النص قرآن.
أما مَن يستخدم آيات القرآن الكريم في غير معناها، أو ربما بتغيير لفظ واحد أو ألفاظ قليلة، فهذا حدث ويحدث كثيرًا جدًّا، ابتداءً من “المرأة المتكلمة بالقرآن” التي لم تكُن تُجيب أحدًا إلا بآية أو جملة من القرآن الكريم، فمثلًا حين سُئلَت: “منذ كم وأنت في هذا المكان؟” قالت: “ثلاث ليالٍ سويًّا”، وصولًا إلى محمد حسَّان الذي قال في فيديو شهير على “يوتيوب”: “ويسألونك عن الإعلام قُل هو أذى” مستبدلًا الإعلام بالمحيض في الآية الكريمة، نهايةً بالصنايعية وأصحابّ المحلّات، فتجد الحلّاق يكتب: “وجوهٌ يومئذٍ ناعمة”، وكوافير السيدات يكتب: “وزينَّاها للناظرين”، حتى صاحب الميكروباص الذي يكتب على سيَّارته: “يا بُنَيّ اركب معنا”.
كل هؤلاء يقتبسون من القرآن الكريم، ولكنهم لا يسيئون إليه. قد يكون بعضهم آثمًا، ولكن إثمه إثم الجهل باستخدامه الآية القرآنية في غير معناها وغير سياقها ولا ما يشبههما. وبعضهم لم يكُن جاهلًا، كالمرأة المتحدثة بالقرآن، والشيخ حسَّان، ورغم هذا استعملَت الآيات في غير سياقها وغير معناها، واستعمَلَ الآية في غير معناها.
هنا يجب أن نفرّق بين بعض المفاهيم: الاقتباس، والتناص، والجدل مع الموروث، والصياغة على النسَق.
الاقتباس هو أن تأخذ جزءًا من نَصّ، وتُورِده في كلامك منسوبًا إلى الأصل، بنفس معناه، كأن تقول: “إذا أردتَ شيئًا فادعُ الله، فقد قال تعالى: “وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم”.
والتناصّ هو أن تأخذ جزءًا من نَصّ، وتُورِده في كلامك كجزءٍ منه، وقد يكون متغيِّرًا عن المعنى الأصلي، كأن تقول عند توزيع الطعام: “للذكر مثل حظ الأنثيين”، لأن المعنى في الآية خاصّ بالميراث، وأنت استعملتَه في الطعام.
والجدَل مع الموروث هو أن تُورِد النصّ ببعض الاختلاف، للفت الانتباه أو إثارة الذهن، كقول أبي نواس: “ما قال ربُّك ويل للأُلَى سكِروا وإنما قال ويلٌ للمصلّينا”.
والصياغة على النسق هي أن تكتب عبارة، قد تتلاقى مع النص أو لا تتلاقى معه في المعنى أو الألفاظ، ولكنها على نفس التركيب اللغوي، أو قريبة منه، كمن يقول: “إنّا نحن علّمنا الشعر” على نسَق قوله تعالى: “إنا نحن نزّلنا الذِّكْر”.
المؤدَّى في النهاية أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، الذي أنزله بلسان عربي مبين، وأعطانا ألسنة عربية تتكلم بجُمَل اسمية وجُمَل فعلية، تمامًا كالقرآن الكريم، وبأساليب عربية (توكيد وتفضيل ومدح وذم وقَسَم واستفهام، إلخ) تمامًا كما في القرآن الكريم، فهل إذا صُغنا أو نطقنا عبارة على نسَق إحدى عبارات القرآن، متعمدين أو غير متعمدين، صرنا آثمين، ومُسيئين إلى القرآن الكريم وهازئين بالله وآياته ورسوله؟
لا أظنّ أن الشريعة بهذه السطحية. – See more at: http://elyomnew.com/articles/23392#sthash.lZZi54Fn.dpuf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *