وائل عبد الفتاح يكتب| عندما تبحث «داعش» عن مينا دانيال
لم تعد سيرة اللواء حمدى بدين تُذكر إلا وتلتصق به مذبحة ماسبيرو. الرجل الذى تصور أنه يهز مصر طولا وعرضا بقيادته لفرق القبعات الحمراء تحول إلى «حالة للدراسة فى كيف تحمى السلطة رجالها من المحاسبة والمحاكمة».
مجرد حالة للدراسة وهو الذى تصور أنه سيخلَّد بطلا لإزالة آثار «٢٥ يناير» فى المجتمع، وهى الآثار التى كانت أكثر حضورا وتأثيرا منها على السلطة، فالمجتمع الذى حوَّلته السلطة إلى عجينة سهلة التشكيل، وشكلت منه كتلا وكيانات وطبقات يسهل تدجينها وترويضها، لم يعد كذلك بعد الخروج الكبير الذى أسقط صنم النظام المتهالك على عرشه: مبارك.
إزاحة مبارك جرحت مَن هم على تربية اللواء بدين، الذى لا يعرف أحد أين هو الآن، إلا أن هناك من حماه من المحاسبة على دوره أو مسؤوليته فى مذبحة ماسبيرو.. أين هو الآن؟ هل ما زال ملحقا عسكريا فى بكين؟ أم أنه فى إجازة تفرُّغ مملة يلوك فيها بطولاته وأمجاده ويلعن الزمن الذى ألقى به فى الظل بعد أن كان يمنّى نفسه بما هو أكثر وأقوى وأفدح من حصة السلطة التى خدمها كما يقول الكتاب، إلى درجة أنه أو الشخص الغامض الذى أدار تلك الليلة السوداء فى تاريخ مصر فَعَلَا ما لم يحدث لو كان هولاكو أو أحد من البرابرة احتلوا مصر.. غرروا بالمذيعة رشا مجدى، وهى نوعية من المذيعات حوامل الرسالات، وصلت إلى موقعها أمام الشاشة بعد مجهود ضخم من البحث عن شبكات المعارف والأقارب والواسطة التى كانت المنْفذ الوحيد لدخول وكر الثعالب والثعابين فى ماسبيرو.. تلك القلعة التى كان يديرها «حاكم إعلامى» مفوَّض من الجالس على عرشه فى قصر الرئاسة.
ماسبيرو ظل منذ افتتاحه وإلى الآن «شاشة الحاكم..» بل إن صاحب السيرة العطرة فى أوكار المخابرات وعمليات «غرف النوم» السيد صفوت الشريف الحاكم الإعلامى لأكثر من ٢٢ ساعة انتشرت عنه المقولة المقدسة: «دى شاشتى..» وكان رؤساء القنوات يرددونها كالدراويش والوعاظ ومشايخ خطب العيد والجمع أمام السيادة الرئاسية: «.. دى شاشة الوزير».
والأستاذة رشا مجدى ظهرت على الشاشة فى ظل الحضور الطاغى لهذه المقولة ولمعت كقارئة نشرة وهى درجة أعلى فى سلم الشاشات.. ولأنها توحدت مع قوانين الشاشة وأدركت بغريزتها وتشبعها بقوانين التربية الصارمة: «صاحب السلطة سيد لا تقترب منه إلا لتقبيل يده»، فإنها كانت الأسرع فى التغرير بها ونقلت ما أراده اللواء المقيم الآن فى الظل أو ذلك الشخص الغريب الذى يصدر الأوامر من وراء ستارة سوداء.. ونظارة سوداء.. وفراغ أسود يكاد يبتلعه من فرط الغموض والألمعية فى فك شفرات حروب الجيل الرابع والخامس وما بعدهما إلى عاشر حرب.
هناك من قال للمذيعة ابنة شاشة السيد الوزير، أىّ وزير وحاكم بأمره فى ماسبيرو أن تذيع الخبر: «.. الأقباط يقتلون الجيش..»، نعم إنها الرسالة التى قالها مرسلها فى ارتباكه الذى جعل المدرعة تدهس مواطنين والجنود يطلقون الرصاصات بهستيرية على المتظاهرين فى مذبحة لن تُنسى.
لن يُنسى مينا دانيال بهذه الابتسامة وتلك النظرة المنتصرة لقيمة كبيرة فى الإنسانية، لا يراها ولا يهتم بها اللواء حافظ السلطة وحاملة رسائلة.. لكن سيراها «داعش» حينما يخبط بسكاكينه أبواب ماسبيرو.. لن يبحثوا عن اللواء بدين ولا رشا مجدى، لكنهم سيبحثون عن مينا دانيال ليقتلوه مرة ثانية.. ليقتلوا فيه الجسر الذى صنعه ليخرج المسيحى المصرى من المظلومية القبطية ويشارك فى بناء فضاء للحياة أكثر حرية وعدلا، فضاء للناس لا للسلطة كى تروِّض قطيعها.
سيقتل «داعش» مينا دانيا مرة أخرى، فلن يكفيه أن يذهب جسده مرة واحدة فهو رمز للخارجين عن العقد الاجتماعى بين القطيع وحكامهم وسيكون دليلا للمختلفين شكلا وصورة وقيما وأفكارا.
وفى أولمبياد السلطوية التى يفرض «داعش» قوانينه الآن عليه سيبحث السكين لا عن بدين ورشا بل عن مينا دانيال وكل مينا دانيال.