وائل عبد الفتاح يكتب | عندما عاد نصر «2»
كان نصر يريد أن يضبط مشاعره. لا تفلت إشارة واحدة ضد هذا المعنى الوحيد.
هو لم يحب وقتها استخدام كلمة: العودة. لأنها تعنى أنه استأذن من أحد قبل أن يدفع ثمن تذكرة الطائرة، ويقرر الوقوف أمام شباك الجوازات فى مطار القاهرة. وهذا لم يحدث. كما لم تحدث من قبل أن بذلت أى مؤسسة من مؤسسات الدولة، وفى مقدمتها الجامعة أى مجهود لكى يعود نصر أبو زيد إلى بلده. بل إن جامعة القاهرة لم ترسل إليه وتستفسر عن الرسائل العلمية التى كان يشرف عليها. اكتفت بأنها نقلت الإشراف إلى أستاذ آخر. هذا ما جعل نصر يشعر بالغربة مع الجامعة، ويكتفى فقط بإنهاء الأوراق الروتينية لأستاذ وصل إلى السن القانونية ويريد تسوية أوضاعه الوظيفية.
إنها حالة غربة (إن لم تكن مرارة) مع الجامعة التى كان من المفروض أن تدافع عن جوهر وجودها فى المجتمع ولا تترك نصر وحيدًا فى مصيدة التكفير. لم ترد الجامعة ولم تحرك ساكنا عندما طالبنا بعودة نصر أبو زيد من «منفاه» الذى أجبر فيه على أن يكون أقرب إلى «لاجئ ثقافى»… طالبنا بإنهاء حال الغربة التى لا يعيشها نصر وحده، بل تمتد إلى كثيرين هنا فى مصر يشعرون بالاختناق.. والمطاردة.. والمراقبة… فى مجتمع يرحب بشطار الفساد وفقهاء التطرف وعباقرة الجهل.. يجعلهم نجومه يسدون نوافذه ويمتصون الهواء الذى نتنفسه… وفى المقابل لا يتحمل الرأى المختلف ولا يقبل بالحجر الصغير الذى يحرك البركة الراكدة.
كنا نريد أن نتخلص من «فضيحة الصمت» على نفى مثقف بسبب أفكاره… ونعيد من جديد أبسط شروط المواطنة، وهى الحق فى الحياة وسط أهلك وفى الشوارع التى عرفتها والتحدث باللغة التى تعلمت بها أول الكلام مهما كانت معتقداتك… مصر ليست وطنا لدين واحد أو تيار سياسى واحد أو عائلة واحدة… وليست قبيلة يحكمها فكر واحد وحزب واحد وحقيقة مطلقة، لا يعلم سرها إلا الكهنة والحكام.
وعلى ما يبدو فإن هذه الحقيقة البسيطة لا يفهمها «كهنة» التيار الإسلامى… الذين سألناهم وقتها عن رأيهم فى عودة نصر أبو زيد إلى مصر فأعلن الأذكياء منهم ترحيبهم بالعودة، لكنهم وضعوا شرط التراجع عن الأفكار… أما الأقل ذكاء فأصروا على أنه يمر بفترة عقوبة تكفر عن خطاياه… وهم بذلك لا يريدون الاعتراف بأنهم مجرد تيار سياسى وأفكارهم مجرد آراء وتصورات ليست نصوصا مقدسة أو «كتالوجا» من وحى السماء لممارسة الحياة على الأرض… يشعر معه ملايين المؤمنين بالعجز عن التفكير والتأمل فى ما يطرحه بشر عاديون يصعدون الجبل المقدس ويحيطونه بأسوار عالية ليستمتعوا بلذة السلطة وإصدار الأحكام على الآخرين… وليوهموا الجميع بأن طريقهم يؤدى فى نهايته إلى الجنة.
والكارثة أنه هناك من يحتكر الحق فى التفكير… كما احتكر المحظوظون الاستمتاع بأموال البنوك وفرص الصعود الذهبية… ليخرج القطاع العريض من المجتمع المصرى خارج التحالف غير المرئى بين الفساد والفاشية الفكرية. لم يطالب أحد بنفى أستاذ جامعى فاسد يزوّر فى النتائج أو يسرق رسالته أو يتحرش بطلابه معنويا… بينما يتفقون بليل على نفى نصر أبو زيد، لأنه فكّر أو بحث خارج الصناديق عما يمكن أن تختلف عليه. الجامعة كانت بالنسبة إليه ملعبا من ملاعب انتصاره فى الحياة والحرية. فهو دخلها فى سن كبيرة وكان عمره 25 عاما، عندما بدأ الدراسة بها فى 1968. تفوّق وتخرج بامتياز ومرتبة الشرف، وكاد يضيع حقه فى التعيين بالسلك الجامعى (بسبب أحلام رشاد رشدى فى بسط هيمنة قسم الإنكليزى على الجامعة) لكنه قابل رئيس الجامعة وظل يلح فى الدفاع عن حقه حتى ناله هو وزملاء دفعته.. ثم عندما اختار فرع الدراسات الإسلامية ليكون محور دراساته العليا، اعترض مجلس القسم (كانت بداية سيطرة الوعاظ وعمائم ضيق الأفق)… وخرج نصر من المعارك باحثا متميزا… يؤمن بحرية البحث العلمى… ورغم أنه لم يخرج عن حدود الإيمان… إلى درجة أنه وصف أحيانا بأنه أصولى… و«شيخ…» فإن تصديقه فكرة الجامعة وانحيازه إلى قيمة التفكير.. جعلاه يتجاوز الخطوط الحمراء فى عصر لا تهتم الجامعة فيه إلا بتخريج جيوش من الجهلة الحاملين شهادات علمية.