أحمد الدرينى يكتب | وجه حماس «البارد».. وقلب مصر «الغض»!
ربما تخضع علاقة النظام المصري بحركة حماس للمثل الصيني «اضرب زوجتك كل يوم علقة.. فإذا لم تكن تدري السبب فهي تعلمه!».. وهو المثل الخلاصة الذي توصل له خبير الحركات الإسلامية الراحل حسام تمام –رحمه الله- في وصف علاقة النظام المصري بالإخوان.
وقبل أن تُبدي أي رد فعل حيال حكم محكمة الأمور المستعجلة بحظر أنشطة حماس في مصر، بوصفها حركة إرهابية، دعني أحكِ لك عن صلاح البردويل وعماد العلمي، القياديَّين بحماس.
(1)
في نهاية ديسمبر 2008، شنّت إسرائيل عدوانًا بشعًا على قطاع غزة امتد قرابة شهر، حاملًا اسم «عملية الرصاص المصبوب»، وأثناء هذا العدوان، كان هناك وفد من حركة حماس شبه مقيم بالقاهرة، ينسق مع الدولة المصرية سبل وقف هذا العدوان.
أحد أبرز وجوه هذا الوفد، هو صلاح البردويل، القيادي بحماس، والمتحدث باسمها هذه الأيام.
جمعني حوارٌ صحفيٌ أجريته مع الرجل في غرفته بأحد فنادق القاهرة، التي تم تخصيص جناح كامل منها لوفد حماس ومرافقيهم، وبدا لي البردويل منذ الوهلة الأولى سميك الجلد..مجازًا وحقيقة.
سألته عن سير المفاوضات وعن الجهود التي كانت تبذلها مصر، عبر لقاءات يومية يجريها وفد حماس مع قيادات المخابرات العامة، التي كانت تنسق الأمر حينها مع مبارك رأسًا.
فتكلم بلكنة ثقيلة وربما متعجرفة وجسد خامل ووجه بدا لي بليدًا، عن لقاء مزمع في الغد، ثم لقاء آخر بعد يومين، وعن اتصالات يتم التخطيط لها بعد ثلاثة أيام، وبعض الخطط المستقبلية لإنقاذ الوضع.
أتذكر أنني انفعلت حينها على البردويل.
فكيف تبدو بارد الأحشاء بليدًا لهذا الحد، بينما يتم دك غزة بالكامل، وبينما تمارس إسرائيل مجازرها بوحشية لا تتوقف.. لقد كنت أحاور الرجل، بينما عداد الدم على الأرض لا يتوقف.. وهو يحدثني عن الغد وبعد الغد وبعد بعد الغد إن شاء الله، والناس تموت وهو في فندقه الأنيق في القاهرة يتفاوض!
وفيما يبدو أحس حرجًا أن يكون الصحفي الذي يحاوره متعاطفًا مع أهله أكثر من تعاطفه هو معهم، وأكثر غضبًا من غضبه.. الأمر لا يتعلق بشخصي، فقد كانت مشاعر المصريين عمومًا والعرب والمسلمين في غليان لا يوصف.. بينما البردويل يبدو كما لو كان في مفاوضات لإتمام صفقة انتقال لاعب من نادٍ لآخر.
وفي مرحلة من المفاوضات والحرب، ظهر للعلن مصطلحا «حماس الداخل» و«حماس الخارج»، في الإشارة للخلاف الذي دبّ بين قيادات حماس التي تقف على خط النار وتحارب تحت ضغط لا يُوصف، وبين قياداتها التي تعيش خارج فلسطين، وربما تتفاوض بنفس برود دم وروح البردويل.
لم يُخيّب البردويل ظني في صلفه الذي يغطي به بروده، ففي نهاية ديسمبر الماضي صرح قائلًا: «التعامل معنا شرف وليس تهمة»، مشيرًا إلى محاكمة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي، بتهمة التخابر مع الحركة، ثم عقّب واصفًا محاكمة المعزول على هذا «الاتهام» بأنه أمر «لا يُعبّر عن عروبة ولا عن إسلام».
وهي نفس نظرية الإخوان، هم «الشرف» والتعامل معهم يزيد المتعامل رِفعة، ومعاداتهم هي مجافاة للإسلام ذاته.
بل لقد كان البردويل، دون تطرف مني، يُشبه قيادات إخوانية مصرية على نحو مثير للتأمل.. نفس «السحنة»، نفس إيقاع الكلام، نفس المصطلحات، نفس الصلف والتعالي الذي يكافح لأجل أن يبدو تواضعًا.
(2)
كان ضمن نفس وفد حماس، القيادي عماد العلمي.
الرجل هادئ ومهذب وودود، يُفضّل الابتعاد دومًا عن وسائل الإعلام، وفي عينيه سحابة حزن لا يخطئها الناظر إليه.
قدرت لي الظروف أن أحاور «العلمي» ضمن سلسلة الحوارات التي كنت أجريها مع قيادات الحركة آنذاك، وبدا لي أنني أحاور «مُقاومًا» بكل الأبعاد الرومانسية للكلمة.
مقاتل لأجل وطنه وقضيته، يعتصر الألم قلبه وهو يتحدث، وتحس صادقًا أنه يتمنى لو كان في ساحة المعركة الآن.
كان متدينًا على النحو الذي تحسه غريزيًا، لا مُصنعًا تصنيعًا في معامل القسام أو خلايا وأسر وشُعب الإخوان، ولم تحل عليه أمارات الراحة إلا مع وقف إطلاق النار.. وبدا لي أن بعضًا من شحوبه قد زال وأن نفسه هدأت قليلًا.
(3)
قيادات حماس هي نفسها قيادات الإخوان، فريقان، أحدهما لا يضيرك أن تحرقه الشهب والنيازك، والآخر تحس فيه صدقًا ورومانسية خلابة.
لم يستوعب الذين تعاملوا مع النوع الثاني من قيادات الإخوان قبل وصول الجماعة للحكم، كيف تبدلوا وصاروا في إسار الفصيل الأول، وكيف ائتلفوا جميعًا على كل هذه الآثام.
(4)
لا تتعجل بالفرح لأجل قطع العلاقات تمامًا مع حماس الإرهابية، ولا تحزن لأجل قطع العلاقة مع حماس المقاومة.
فالمسميات طارئة ومؤقتة، وعلاقة حماس بالأجهزة الأمنية المصرية مُعقّدة فوق ما نتصور، فحماس التي قال قيادي فيها ردًا على قرار المحكمة، إن الأمر استمرار لسياسات مصر في تجويع الفلسطينيين على مدار 8 سنوات بأوامر من عمر سليمان (يبدو أنه مازال يمارس رغباته من قبره!)، هي نفسها حماس التي كان قياديوها يشيعون الدور الإنساني الذي لعبه عمر سليمان لأجل غزة وأهلها.
وحماس لم تُثر ضجيجًا يتناسب مع «جريمة» قتل أخي القيادي سامي أبوزهري في سجن برج العرب قبل نحو 5 سنوات، فيما ذهبت شخصيًا لتفسيره بأنها تصفية مقصودة وأسبابها مفهومة للطرفين، وبأنها عقاب مصري لحماس، فهمته حماس جيدًا في ذلك الوقت، ولم تنقطع وتيرة تصريحات حماس بعد هذا الحادث عن امتداح «الدور المصري» في القضية الفلسطينية.
والآن.. فإن أجهزة الدولة المصرية التي ينطلق إعلامها في اتهام حماس باقتحام السجون وقتل المتظاهرين، هي نفسها أجهزة الدولة التي أتمت عملية تسليم الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال لفلسطين في صفقة «شاليط» الشهيرة، بعد التوسط بين حماس وتل أبيب، والتي جرت بعد الثورة في أكتوبر 2011 تحت حكم المجلس العسكري وبحضور اللواء رأفت شحاتة وكيل المخابرات (الرجل الذي تأبّط شاليط بوجه متجهم) والذي صار مدير الجهاز فيما بعد، بعد عُمْر من مسؤولية التنسيق المباشر مع حماس والدولة المصرية.
(5)
العلاقة بين الدولة المصرية وحماس مُعقّدة، والخفي فيها، سلبًا وإيجابًا، أكثر من المعلن بكثير.
بل ربما أذهب إلى أن مصر، عمقًا ما من أعمقة أجهزتها وقرارها الاستراتيجي، تدعم حماس في ناحية ما بقوة، بينما تحتقرها من نواح أخرى بقوة لا تقل عن قوة الدعم!
وبالمثل، تثق حماس في أن مصر ظهيرها الأهم، وتثق في أن الأزمة حين تصل لذروتها لن ينجدها غير «الدولة المصرية»، وفي نفس الوقت يعتقدون أنها كـ«دولة» ضد المقاومة، وربما مؤخرًا ضد الإسلام ذاته.
غير أن هناك عدة تباديل وتوافيق تجتاح المشهد من آن لآخر، فإذا صدّرت حماس وجهها البارد، صفعته أجهزة مصر بيد خشنة غليظة، وإذا صدّرت وجهها الرومانسي ترفّقت مصر.
(6)
أيًا كان موقفك من حماس، وأيًا كانت درجة التشوش أو الحسم فيه، دعني أقتسم معك هذه الحقيقة الظريفة.. كلا الطرفين لن يفترق، لا بأمر محكمة ولا سواه، بل ستستمر علاقتهما مُشَوَّشَة في مُطلقها، واضحة المعالم في تفاصيل دقيقة، وستستمر الدولة المصرية في احتقار حماس، لكن شيئًا ما غضًّا في قلبها لم يزل (صدق أو لا تصدق!) سيدفعها للتعامل معها ومع غيرها، لأجل الشعب الفلسطيني.. ثم في اعتبار أكبر، لأجل الأمن القومي المصري نفسه.