أيمن الجندى يكتب | سجادة كونية ذات نقش عجيب
فى البدء بدا اليوم كسائر الأيام لا يحمل دلالة خاصة. كان صباحا شتائيا لطيفا وكنا فى العمل. وحان موعد صلاة الظهر فالتمسنا هدنة، وبدأنا نتجمع لأداء الصلاة فى تلك الردهة الواسعة التى تفترشها شمس الشتاء. واجتمع شمل الزملاء وتقدم الزميل الذى ارتضيناه للإمامة. حتى ذلك الحين كنت أتصور أنها صلاة من آلاف الصلوات التى أديتها فى حياتى. أقف وبالى مشغول! وذهنى مكدس بآلاف الأفكار الدنيوية. نركع ونسجد بشكل آلى، ثم نتفرق لأداء أعمالنا.
بدأت الصلاة. وانتصب الإمام على سجادة زرقاء صغيرة. بينما وقفنا خلفه على بساط أحمر عريض. وبدأت أتمتم فاتحة الكتاب كالمعتاد دون انتباه لمعانيها. وفجأة انتبهت أننى أصلى، ولمن؟ لخالق السموات والأرض! وأحسست كأننى أفقد الوعى أو أكتسب وجودا آخر. لا أستطيع أن أعبر بدقة. فى لحظة خاطفة بدأت أنتبه إلى طريقة اصطفافنا، وبدأت أنتبه إلى أننا فى وضع تشكيلى غريب. إمام يتقدم جموع المصلين. أشبه ما يكون بطائر يتقدم سرب العصافير. وبدأت أنتبه إلى أن هذا الحشد من الكائنات، التى هى نحن، تقف فى تركيب تشكيلى أنيق كى ترفع الصلوات لخالقها غير المرئى. وبدأت أشعر بأننا لسنا وحدنا من يبتهل ويصلى. وامتد البصر وانكشف الحجاب. واتسعت الرؤية فشاهدت صفوفا تتجه إلى القبلة فى كل مكان.
وفى كل بقعة من العالم يتكرر هذا الوضع التشكيلى الأنيق، كلوحة هائلة كونية فى المشرق والمغرب والشمال والجنوب. وكأننا نرسم بأجسادنا نقوشا على امتداد بساط سندسى بحجم الكرة الأرضية، ذى رسم ساجد غريب. وبحكم اتصال خطوط الطول فإن هذا النقش البشرى التعبدى مرسوم طيلة الوقت باستمرار.
أليس معجزا أن تكون أجسادنا أداة فى يد القدرة الإلهية ترسم بنا هذا النقش العجيب! أليست نعمة أن يستخدمنا الله دون أن ندرى كلوحة خاشعة هائلة!
انفصلت تماما عن ذاتى وأنا أشعر بغرابة الموقف. لم أعد أراهم أو أرى نفسى. وكأننى أصلى لأول مرة. كان الإمام يسجد وكنا نسجد خلفه. وشاهدت بوضوح سجادته الزرقاء. واتصلت سجادته بزرقة الأفق الصافية، ثم انسابت إلى البحر اللجى الأزرق، فحسبته لجة ولكنى لم أكشف عن ساقىَّ. وإنما فتحت ضلوعى وكشفت عن قلبى. اتصل القلب بالملأ الأعلى. وسمعت بوضوح أننا لم نأت للعالم إلا لكى نعرف الله ونعبده، ونكون شهودا على مجده. وعرفت أن الحب هو أسمى درجات العبادة. وقال قائل إن علامة صدق المحبة أن تطيع المحبوب فيما أمر ونهى. وقال آخر بل صدق محبته أن تلتمس مراده قبل أن يأمر وينهى.
وعرفت أحوال العاشقين فقيل لى إن نسيت ذكره مسافة نَفَس فقد جفوته، وإن غفلت عنه دقة قلب فقد فاصلته.
وعرفت أننى غير موجود فى الحقيقة. الزمن مخلوق وأنا مخلوق. وحتما، حين يشاء ربى، سيموت الزمن وأموت. وينتهى وجودنا، أنا والزمن وكافة الخلائق، ويبقى وجه ربك ذى الجلال والملكوت. الجبار يمجد نفسه، يسأل بلسان القوة والجبروت، ويجيب عن ذاته العلية: «لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار».