أحمد الدرينى يكتب | بوتين الذي يلعب الجودو
«مهما بدا الأمر ديمقراطيًّا وشعبيًّا، فالحقيقة هي أن بوتين ضم القرم لروسيا بقوة وضع اليد. والفارق الوحيد بين هذا الحدث التاريخي وأحداث تاريخية مشابهة هو أن بوتين أجرى هذه الجراحة السياسية بسرعة ونظافة غير معتادة في سوابق وضع اليد الاستراتيجية».
يقول كتاب رياضة الجودو اليابانية التي يجيدها بوتين إلى درجة الاحتراف، ويحمل أرفع أحزمتها السوداء، إن فلسفة انتصارك لا تعتمد على قوتك التي تسحب بها خصمك نحو السقوط المهين بقدر ما تعتمد على استغلالك لاندفاعة الخصم الخاطئة.. الخصم يبذل الجهد ويتخذ الاتجاه، وكل ما عليك أن تكمل مشواره نحو السقوط بذات القوة التي بذلها وفي الاتجاه الذي اختاره.
وهذه هي الفلسفة عينها التي أدار بها فلاديمير بوتين صراعه الأخير في أوكرانيا، والذي حسمه قبل أيام بخطاب تاريخي أعلن فيه أن القرم – التي كانت جزءًا من أوكرانيا – كانت «وستظل جزءًا لا يتجزأ من روسيا».
وقف الرجل الحديدي مدافعا عن مصلحة موسكو الاستراتيجية في أوكرانيا موحيًا للعالم بأنه القوي الذي يصارع ذراعًا بذراع وساقًا بساق عدوا هو أكثر منه قوة واستعدادا للصبر على البأس. وخرجت الصيحات من جنبات العالم الذي سحقت القوى الغربية أحلامه لقرون تهتف بحياة بوتين المنقذ والمخلص والبطل الدكر الذي ترك بصمة حذائه على وجه أوباما، وجرحه في كرامته الإمبراطورية وعلم عليه في (شرفه الاستراتيجي).
لكن الحقيقة أن لعبة بوتين الماهرة، التي أداها هذه المرة على طاولة السياسة بنفس البراعة التي يؤديها بها على بساط الجودو، لم تنجح بقوة ذراعه وسرعة ساقه، وإنما باستغلاله الهادئ والحكيم لاندفاعة الغرب نحو الديمقراطية وتحقيق واحترام الإرادة الشعبية.
«الشرعية الشعبية».. «التصويت».. «حكم الشعب لنفسه وبنفسه».. إنها نفس بغلة الديمقراطية التي اخترعها الغرب وامتطاها حتى غزا القلوب والعقول في أقصى الأرض، وحقق بها السيطرة الاقتصادية والسياسية والحضارية بوصفها النظام السياسي الوحيد الصالح.
ألم يبذل هذا الغرب الديمقراطي كل ما في وسعه لهدم الاتحاد السوفيتي بحجة أنه نظام غير ديمقراطي ولا يراعي «إرادة الشعوب»؟ ألم يصف الغرب حساباته «بالطرق الديمقراطية» مع صدام حسين والقذافي وغيرهما عندما رفع كتاب الديمقراطية والإرادة الشعبية على أسنة الرماح؟
لم يفعل بوتين شيئا غير استغلال زخم وقوة دفع هذه البغلة العنيدة في إسقاط الغرب أرضًا فوق بقعة من البساط تدعى أوكرانيا.
ولذلك فقد تلقى الغرب صدمة خطاب بوتين أمام البرلمان الروسي الذي قال فيه إنه ضم القرم استجابة «للتأييد الشعبي لضم القرم إلى روسيا» بصبر من لا حيلة له غير قبول الأمر الواقع ولسان حاله يقول «هذه بضاعتنا ردت إلينا»!
فأي مبرر يمكن أن تسوقه هذه الأنظمة الديمقراطية لدافع الضرائب كي يقبل إهدار أمواله وقوته العسكرية والسياسية في صراع مع شعب اختار بإرادته الشعبية وبحريته وبالطرق الديمقراطية أن ينضم لروسيا؟
هذه هي الحقيقة التي يدركها بوتين جيدا ويستغلها، وهي نفسها الحقيقة التي يدركها الغرب جيدا لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا حيالها.
وما يزيد الصورة تعقيدا هو أن بوتين لا يدير مباراة الجودو في منتصف البساط حيث القرم التي تعتبر البوابة الشمالية للبحر الأسود المؤدي إلى المياه الدافئة وطرق الطاقة فحسب، ولكنه يناور على أطراف البساط حيث الشرق الأوسط نفسه وأين تتقاطع السياسة والجغرافيا ومحاور المرور الحيوية في مصر والخليج العربي.
لقد أوحى بوتين للشرق الأوسط الذي يعتبر نفسه باحة خلفية للمصالح الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بأن موسكو لم تمت، وبأن الحرب الباردة يمكن أن تعود، وأن الزمن يمكن أن يعود إلى الوراء عندما كان العالم ثنائي القطبية، وعندما كانت فيه بدلا من القوة العظمى اثنتان. وصحيح أن الحرب الباردة لن تعود كما لا يعود الزمان بعجلته إلى الوراء، ولكن التصور الذي صدره بوتين لهذه البقعة المنكوبة من العالم أحيا فيها آمال الستينيات في الحرية والاستقلال والتخلص من التبعية للغرب، خاصة أن فرص تحقيق هذه الآمال عبر الثورات الشعبية الربيعية العربية تحطمت كلها تقريبا على صخور الفوضى وغلبة الدولة العميقة وتضارب المصالح الاجتماعية وتناحر المصالح الطائفية.
هذه جولة أخرى من الجودو يدفع بها بوتين الشرق الأوسط في ذات الاتجاه وبذات القوة التي يندفع بها الشرق الأوسط نفسه نحو تصديق وهم عودة الحرب الباردة وثنائية القطبية العالمية.
لقد تغيرت الخريطة كثيرا بعد هذا الحدث، لكن الأمر يجب ألا يبدو ورديا إلى درجة الإيحاء بتغير موازين القوى الدولية، ولكنه بالتأكيد بداية قوية لإعادة رسم واقع هذا التوازن على خلفية عجز الولايات المتحدة وحلفائها عن التهام الكعكة وحدهم، ورغبة روسيا في تأمين حصتها العادلة منها.
وفي هذا الخضم شاهدت تغريدة نشرها لاعب الشطرنج الأسطوري السابق وزعيم المعارضة الحالي جاري كسباروف على موقع تويتر يدعو فيها العالم الغربي إلى فرض العقوبات على المليارديرات الروس الذين يدعمون بوتين، ويمثلون الذراع الاقتصادية والمالية لنظامه.
ولكن أي طفل قليل الخبرة يعرف أن فرض عقوبات اقتصادية على موسكو سيكون بمثابة فرض عقوبات على أوروبا لا قبل لها بها نظرا لما يشبه الاحتكار الذي تتمتع به روسيا في قطاع صادرات الغاز للاتحاد الأوروبي. لكن يبدو أن كسباروف يظن أن المباراة ما زالت مستمرة، وأن الفرصة ما زالت متاحة لحصار الملك وأحصنته وأفياله وعساكره إلى حيث الاختناق والاستسلام. بينما يعرف بوتين أنه حسم معركته بطرح الخصم أرضا بالفارق الفلسفي بين الشطرنج والجودو.