عمرو الشوبكى يكتب | الحاضر ليس وردياً
حاضر مصر صعب، ومستقبلها قد يكون أقل صعوبة فى حال إذا قرأنا الواقع جيدا، وحاولنا أن نفهم طبيعة التحديات التى تمر بها البلاد، ونقر أن الحاضر ليس ورديا، وأن المستقبل قد لا يكون كذلك فى حال إذا وضعنا الأساس الصحيح الذى يمكن أن نبنى عليه نظاما سياسيا جديدا.
ولعل التحدى الأبرز الذى تواجهه مصر ونجت فيه جزئيا هو سقوطها فى مشروع الفوضى الخلاقة وتفكك الدولة نتيجة ترهلها وأخطائها من جهة، وضغوط الخارج ومندوبيهم فى الداخل من جهة أخرى.
والمؤكد أن مشروع الفوضى الخلاقة روّجت له إدارة الرئيس الأمريكى السابق بوش، واعتبرت أن الفوضى التى تلى تفكيك الدولة وهدم المؤسسات هى فوضى خلاقة سوف يخرج منها نظام سياسى ديمقراطى جديد.
إن الفشل المدوى لمشروع الفوضى «غير الخلاقة» فى العراق، الذى أسفر عن مقتل حوالى نصف مليون عراقى وتفكيك الدولة والجيش وبناء دولة شبه فاشلة، خضعت لحسابات القوى السياسية والمذهبية اللتين فرضتا رجالها على كل مؤسسة عوضاً عن معايير المهنية والكفاءة، وإن بلدا مثل ليبيا لا يتجاوز عدد سكانه ثلث سكان القاهرة عاجز حتى هذه اللحظة عن بناء مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة التى هوت بفعل نظام القذافى أولا ومؤامرات الخارج ثانيا.
والمؤكد أن الخطر الذى تواجهه مصر الآن ليس بالهين، والثمن الذى يمكن أن يدفعه بسطاء المصريين وفقراؤهم بسبب مراهقة ثوار بعد الثورة من الذين امتهنوا الثورية بعد أن سقط مبارك، وممارسات جماعة الإخوان من أجل إفشال المسار السياسى بأى ثمن، يضع البلاد أمام أخطار حقيقية.
مدهش أن يعتبر البعض أن هدم كل شىء بطولة من الشرطة التى تحاول أن تتماسك، حتى الجيش القوى، مرورا بالقضاء، فهؤلاء برروا الاعتداءات على المنشآت العامة والخاصة واعتبروه «عنفاً ثورياً»، لأنهم لا يدفعون ثمنه، إنما الشعب المصرى وليس مندوبى الفوضى غير الخلاقة، فهم على الفيس بوك جالسون أو عبر الحدود مسافرون.
يجب ألا ننسى أن الملمح الأبرز لنظام مبارك كانت فوضويته وعشوائية أدائه وانعدام كفاءته أكثر من استبداده وقمعه الذى كان موجودا بكل تأكيد، لأنه كان نظاما غير ديمقراطى، ولكنه لم يقتل معارضيه فى الشوارع كما فعل القذافى وبشار الأسد وصدام حسين.
نظام مبارك كان نظاما هشا وضعيفا، والقمع الذى مارسه كان إحدى سماته ولكنه لم يكن السمة الرئيسية، بل كان الانهيار الذى عرفته البلاد فى الصحة والتعليم والخدمات العامة هو السمة الرئيسية لهذا النظام، لذا فإن مواجهة هذا الانهيار والتجريف وخطر السقوط فى الدولة الفاشلة هى مهمة كل وطنى، وهى أمر يحتاج إلى جهد ونضال حقيقى من كل الأطياف السياسية طالما كانت بعيدة عن العنف ممارسة أو تحريضاً.
إن النجاح السهل للثورة المصرية يكمن أساساً فى ضعف نظام مبارك وليس قوة الثورة، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التى فرضها على البلاد 30 عاما، وهو أمر مستحيل أن نجده فى تجربة أخرى فى العالم، فديكتاتوريات أمريكا اللاتينية العسكرية الأكثر قسوة بما لا يقارن من نظام مبارك، عرفت أنظمة قوية، فيها قيادات صف ثان وثالث، دعمت بقاءها حتى النهاية وتفاوضت بشراسة مع النظام الجديد، وأسست لأحزاب يمينية ارتدت رداء ليبراليا، ووصل بعضها للحكم، كما أن تجارب أوروبا الشرقية، أو إسبانيا، أو البرتغال التى بدأت التحول نحو الديمقراطية فى منتصف السبعينيات عقب انقلاب عسكرى، كانت فى وضع شبيه بمصر فى الستينيات، أى هناك نظام سلطوى ودولة قوية بها مؤسسات تعمل وتعليم جيد وصحة معقولة وجهاز إدارى فيه حد أدنى من الكفاءة ودولة مليئة بالأسماء اللامعة والكفاءات القادرة على أن تقود البلاد نحو نظام جديد، وهذا ما يغيب عن مصر الآن.
إن النظم الاستبدادية القوية والشرسة وجدنا الثمن الذى تدفعه الشعوب من أجل أن تتخلص منها، ويكفى مشهد واحد من مشاهد القتل اليومى فى سوريا لنكتشف كيف نجت مصر من مصير كارثى لم تكن ستتعافى منه لو انحاز الجيش أو قسم منه للنظام القائم، أو انقسم بسبب معارك السياسة.
إن رواد الفوضى غير الخلاقة من بعض «السياسيين» وبعض «الحقوقيين» وبعض الإعلاميين، وكثير من الإخوان الذين اكتشفوا فى غالبيتهم الساحقة «ثوريتهم» الزائفة بعد ثورة 25 يناير، وبعد أن تعايشوا على مصائب الناس والدماء التى تسيل كل يوم، واعتبروا أنه ليس مهما أن تسقط الداخلية لأننا نظرنا فقط لانحرافات القلة داخلها ونسينا آلاف الجنود والضباط الذين يُستهدفون كل يوم من قبل الإرهابيين والخارجين على القانون دفاعاً عن أمن المواطن والمنشآت العامة والخاصة.
المؤكد أن الغالبية الساحقة من المصريين ترفض خيارات الإخوان، ولكن البعض أراد أن يخطف الشارع وإرادته لصالح حساباته السياسية أو صوته العالى وعنفه، والحقيقة أن مهمة بناء النظام كما جرى فى كل تجارب التغيير غابت عن الكثيرين، فمصر تكاد تكون هى الدولة الوحيدة فى العالم التى حول فيها البعض طاقة البناء التى أطلقتها الثورة إلى طاقة هدم، وأن بداية الحل أن نعترف بواقعنا الحالى ونتأكد أن التحدى هو بناء نظام ديمقراطى جديد وإصلاح مؤسسات الدولة، وكلاهما تحد كبير، فكيف نخرج من الواقع غير الوردى ونبنى أحزابا سياسية حقيقية، تستطيع أن تقدم كوادر قادرة على البناء وتقديم البدائل وليس الهدم والهتاف كل يوم بسقوط أى رئيس؟!
البعض يتصور أن الدعوة للبناء هى محاولة للتسليم بالأمر الواقع أو قبول أخطاء كثيرة فى المسار الحالى، وينسى أو يتناسى أن أخطاء المسار الحالى ترجع لاستمرار الخلل فى توازنات القوى، وعدم تقديم أى بديل سياسى إصلاحى لصالح خطاب «التفكيك» والثورة الدائمة، الذى دُعِّم من قوة الفريق المحافظ المؤثر فى دوائر كثيرة، والذى يعتبر بعض الانتهاكات الحالية بطولة وحربا على الإرهاب، ويدعو علنا لعودة الاستبداد فى مواجهة الفوضى والاستباحة التى يروجها بعض مندوبى الخارج، والذين ساهموا فى عودة خطاب «الثورة التى خربت بيتنا»، و«الديمقراطية التى لا نستحقها» لأننا لسنا شعب مؤهل لذلك.. وغيرها.
مصر بحاجة لإصلاحيين حقيقيين يقدمون بدائل اقتصادية وسياسية لأوضاع داخلية خطرة وتحديات خارجية مقلقة، ويضعون البلاد على أول الطريق الصحيح بعد أكثر من 33 عاما من التخبط والانهيار، وهذا تحدٍ ليس بالسهل وأخطر مما يتصور الكثيرون.