أيمن الجندى يكتب | الذى ذهب مُغاضبا
عرفته فى أحد منتجعات البحر الأحمر. اسمه إبراهيم، شاب فى العشرينيات من عمره، تبدو عليه النشأة الريفية وسيماء الاستقامة. شأنه شأن الكثيرين من نبات هذا الطين الطيب. هؤلاء المكافحون الذين لم ترفق بهم الحياة، فلم ينل ذلك من عزيمتهم، وإنما هجروا الأهل والقرى إلى حيث العمل المتاح مهما يكن شحيحا ومتواضعا. معظمهم من حملة الدبلومات، وبعضهم من حملة الشهادات الجامعية. لكن شيئا ما فى هيئة إبراهيم جعلنى أشعر بأنه ليس كأحدهم. تعودت منذ طفولتى أن النوابغ يكون لهم عادة هذا الجبين العالى والعينان العميقتان فى قاعدة قلما تخطئ.
كنت قد أطلت المكوث فى هذا المنتجع، وبالتدريج بدأ التواصل الإنسانى بينى وبين هذا الشباب المكافح. كان المنتجع شبه خال، وقد أحجم السياح عن زيارته، بسبب ظروف مصر المعروفة. بالتدريج نشأت بينى وبينهم مودة، خصوصا إبراهيم الذى كان يعمل وقتها فى الاستقبال.
أخبرنى أحد أصدقائه بقصته. نبوغه غير العادى. أول المدرسة بلا منازع. لكن معول الفقر كان يضرب بنيانه بلا رحمة. أمه التى تعمل بالأجر، وأبوه العامل باليومية. وحين حصل على الثانوية العامة بمجموع مدهش، وعزم على غزو المدينة اصطدم بالوساطة والفرص غير المتكافئة. رغم ذلك حصد المركز الثانى، فلم يُعين بالجامعة. وطوى داخله مرارة مزمنة، وهو يرحل إلى البحر الأحمر باحثا عن وظيفة صغيرة.
لكن النوائب كانت بانتظار إبراهيم هنا أيضا. رئيسه المتعجرف الذى كانت تستفزه هيئة إبراهيم الواثقة. ذبذبات خفية تنتشر فى الأثير تصل مديره معانيها، تقول الرسالة إنه أفضل من هذا المدير بكل سلطته ووجاهته.
كان المدير يوبخه بقصد الإهانة، وقد وقف إبراهيم فى مواجهته يستمع بهدوء تعس، لا خَفّ وميض عينيه الذكيتين، ولا انحنى جبينه العالى. كل ما هنالك أنه ازداد حزنا وكدرا. وعرفت فى اليوم التالى أنه قد تم نقله لدورات المياه بقصد إهانته. وشعرت فى قلبى بخنجر دامٍ، آسفاً على حال هذا البلد. تحتفى كل الأوطان بهؤلاء النوابغ فيما عدانا.
وذهبت إليه، وانتحيت به جانبا، ناظرين إلى قلب المنتجع، حيث استقبلتنا الطبيعة بلونها الأخضر وبهائها الباذخ. ووقفنا فى صمت على خلفية من السماء الرائعة العميقة. كان الربيع قد حل مع برودة منعشة لطيفة. وحلقت طيور بيضاء فوق البحيرات المتناثرة. لكن إبراهيم قد وقف مُغاضبا، عاقد الحاجبين وكأنه يسجل احتجاجا، رافضا فى إباء أن ينظر إلى بهاء الطبيعة، محدقا بإصرار فى دورة المياه كطفل غاضب.
كنا واقفين أمام الباب، ووجدتنى بغير وعى أجذب هذا المُغاضب، وأدير وجهه إلى الجمال الكونى فى الاتجاه الآخر، وكأننى أصالحه على أقداره. هو يستدير، وأنا أجذبه. هو يعاندن وأنا ألاطفه. هو مُغاضب، وأنا أراضيه. قلتُ هامسا وصادقا: « ستنصفك الحياة يوما ما يا إبراهيم. صدقنى». وبدا كأنه صدقنى. وبدا كأنه تأثر بمشاعرى الصادقة الودودة. وفى لحظة شعرت أنه يلين لى. والتفت بكل كيانه إلى روعة الطبيعة. وكأنما يستمد الأمل من أنفاس الربيع، وهى تغزو المروج الخضراء. ووقفنا فى صمت، وقد احتضننا سحر الأصيل الحنون بضمات رفيقة. والطيور البحرية أشجاها الجمال، فتغنت، واختلط غناؤها فى أوركسترا كونية.
وتحت البصر، عند لجة البحر الأزرق المتصل بالسماء، امتد صفان طويلان من الأشجار، وكأنهما يرسمان له طريقا محددا إلى غدٍ، سيكون بكل تأكيد أفضل وأجمل.