عشية مانشت الجارديان Egypt’s bloody crackdown (١٥ أغسطس ٢٠١٣) كنت في زيارة للجريدة المستقلة العريقة. في الاجتماع تفاخر أحد كبار محرريها Chris Elliott بأن جريدته هي التي قدمت للعالم وثائق ويكيليكس (٢٠٠٧) ثم Edward Snowden الذي كشف عن فضيحة NSA في التجسس على ملايين البشر حول العالم. ولكنه بادر أيضا بالاعتراف أن الجريدة أخطأت في تفاصيل قصتها الشهيرة الخاصة بمليارات عائلة مبارك (٤ فبراير ٢٠١١). بعد أن انتهى سألني الرجل: ماذا يحدث عندكم عندما تخطئ «سهوًا» وسيلة إعلامية مصرية..؟
أصارحكم.. فضلت ألا أجيب عن السؤال.
عدت الى القاهرة لأجد إحدى الصحف (٢٧ أغسطس ٢٠١٣) تنشر أنها اكتشفت أن مسؤولا كبيرًا بإحدى الوزارات الخدمية قد صوت لمحمد مرسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. والأهم أنها اعتبرت أن في هذا «خبرا». والأدهي أن تنشره بمنطق أن في الاكتشاف ما يدين الرجل (!)
على الناحية الأخرى كان المانشيت الرئيس الذي يتصدر الصفحة الأولى للجريدة الرسمية لحزب ذي مرجعية دينية (الحرية والعدالة: ٢٥ أغسطس ٢٠١٣) يقول نصا: “لجنة الانقلابيين لتعديل الدستور تجيز سب الدين والرسل وتشجع انتشار الفساد وتدعم تدهور الأخلاق» (!)
قرأت هذا، وذاك.. وتذكرت حديث الصحفي البريطاني. وتأكدت كم كانت إجابة سؤاله “صعبة”.
في الأسبوع ذاته حدث أن شابا صغيرا يعمل راقصا للباليه الحديث كما قالت الصحف «تصادف» أن له لحية، «وتصادف» أنه كان يسير في وضح النهار في شارع عمومي واسع في حي المهندسين الراقي وقت أن حدثت واقعة اطلاق النار «الملتبسة» والتي نقلتها بعض الفضائيات على الهواء مباشرة (!). ثم كان أن تعرض الشاب النحيل الى ماكان يمكن أن يكون محاولة للقتل الجماعي من جمهور العامة لولا حماية قوات الجيش التي ألقت القبض عليه. الشاب الذي ثبت أنه عضو في حركة تمرد، كان الجمهور سيفتك به على افتراض أنه هو الذي كان يطلق النار. لا لشيء إلا بسبب «لحيته”. لم يتمهل أحد ليسأل، فيعرف أنه أبعد ما يكون عن أولئك الذين قصدهم الجمهور الغاضب…. شيء من هذا يحدث في مصر الآن.
في منتصف أبريل، وقبل أن تندفع الأحداث في طريقها «الحتمي» الى الثلاثين من يونيو، قلت لأحد الأصدقاء من قيادات الجماعة «التي انتحرت”: أشعر بأن يوما سيأتي، لنكتب فيه نرجو عامة المصريين أن يقبلوا (فقط يقبلوا) أن يعيشوا ويتعاملوا بشكل طبيعي مع جيرانهم وزملائهم وأقاربهم المنتمين الى الإخوان المسلمين … ويبدو بكل أسف أن هذا اليوم قد جاء.
تتحمل سياسات الجماعة، وتصريحات قياداتها المسؤولية الأولى بلا شك عن السقوط المريع لشعبية تنظيم عاش ثمانين عاما «وسط الناس».
لم يصب في صالح الجماعة قطعًا ما شاهده المصريون في رابعة مما بدا ترحيبا باقتراب البوارج الأمريكية من السواحل المصرية. أو ماكان على المنصة في الأيام الأولى من دعوات صريحة الى «انقسام جيش مصر»، دون اكتراث بآثار ذلك وعواقبه. ومن تأكيدات علنية على أن الجيش الثالث الميداني، وقائده اللواء أحمد وصفي «يقترب من العاصمة لتصحيح الأوضاع». ثم ماسمعوه من أحد الأشقاء على شاشة إحدى القنوات العربية، وقد وصلت به «صدمته» الى درجة أن يدعو الى «فتح حدود مصر لتحريرها من جيشها..» (!)
وصحيح أن منصة رابعة، التي تفرغت «قنوات تلفزيونية» لنقل فعالياتها على مدار الساعة، تكفلت بالإجهاز على البقية الباقية من صورة جماعة يكفيك خطابها المعلن على المنصة (دعك من محاولات تجميل كانت تفسدها أو تكشفها تلقائية الهتافات وتهور المتحدثين) لتعيد النظر حتما في كثير من مواقفك منها «كتنظيم»، لا كأشخاص ومواطنين متعاطفين؛ معظمهم «في الأصل» كمعظم المصريين بسطاء طيبون.
قد يكون ذلك كله صحيحا، وهو كذلك للأسف. ولكن صحيح أيضا أن الجسد واحد، وإن «مرض» أحد أعضائه. كما أنه صحيحٌ أيضًا أنه لا يجوز أن نرى على الشاشات اليوم, وإن كان من الزاوية الأخرى بعض ما كنا نعيبه على قنوات تم إغلاقها بعد أن أمعنت في التحريض وأدمنت فتاوى القتل وهدر الدماء، فكما أن دعاوى “التكفير” مرفوضة وخطيرة ومجَرَّمة، كذلك دعاوى “التطهير” التي تنطوي على عنصرية فكرية مذمومة ومرفوضة. فكما كان مرفوضا، وممهِدا الى ما صرنا اليه، ومحرِّضًا على إهدار الدماء، كل ما كان من استحضار للدين الى غير ساحاته بالربط القسري بين «شريعة الله وشرعية الرئيس» (٣٠ نوفمبر ٢٠١٢) أو بالزعم بأن معارضي مرسي، أو من عارضه يوما ما هو ضد الإسلام أو «مشروعه”، أو حتى بالقول «الفاسد» بأن من خرجوا يوم ثلاثين من يونيو يريدون هدم الإسلام. يظل مرفوضًا أيضًا كل حديث يملأ الفضاء الآن يروج من طرف خفي الى أن «كل ملتح أو منتقبة» هو مشروع لإرهابي. أو يتصور أن استئصال شأفة «فكر» أيًا ما كانت خطورته، يمكن أن يكون بما يدعو له من إجراءات أمنية مهما كانت درجة عنفها…. {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} كما يقول سبحانه في سورة النساء (١٤٠)
لا أجادل في ما اقترفه الإخوان من جرائم في حق بسطائهم وجماعتهم؛ تاريخها ومستقبلها. فضلا عما فعلوه بالوطن وبأحلام الذين خرجوا في يناير، بل ربما أدرك أكثر من غيري حجم الجريمة …. ولكني، أصارحكم لا أتحمل هذا الهزل وهذا الهراء الذي أراه كل ساعة على شاشات التلفزيون. وصل الأمر بمسؤول أمني كبير جدًا «سابق» يربط بين عمل أحد المقبوض عليهم مؤخرا في أحد شركات الأدوية العالمية المسجلة في الدانمارك بقرارات كوبنهاجن الأخيرة حيال مصر (!) والكلام يستدعي في الواقع أكثر من مجرد علامة تعجب.
أفهم أن هناك تهديد غير مسبوق للأمن القومي، وقلت سابقا (الشروق: ١٤ يوليو ٢٠١٣) أن أمن مصر القومي، بعد حقن الدماء فوق أي اعتبار. ولكن لماذا لا نتعلم ممن سبقونا احترام القانون وآدمية البشر من بني آدم «الذي كرمه الله» مع اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على الأمن القومي. كما فعلت الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحادي شر من سبتمبر و بعد هجمات هيوستن الإرهابية الأخيرة. بل ولعلنا نتذكر الضجة التي أثيرت حول سبل التحقيق التي جرى اعتمادها في جوانتنامو وأبو غريب.
أعلم قدر الحماقة والخطر والتهديد للوطن الذي شهدناه لأسابيع على هذه المنصة أو تلك، أو ما واكبه من هجمات أو تفجيرات هنا وهناك. ولكن يقلقني على مستقبل هذا الوطن أن «سادية» عصفت بتفكير بعض مواطنيه قد جاوزت بمراحل كل عنف متصور من الأجهزة الأمنية. سمعت إحدى الفضليات تنادي يومها بقصف هؤلاء «المجانين» بالطائرات. وتفتق ذهن أخرى عن فكرة إغراقهم «بالمياه المكهربة». ولا أملك تعليقا غير ما اخترته عنوانا قبل أسابيع «ماذا جرى للمصريين» (الشروق: ٢١ يوليو ٢٠١٣). فضلا عن دعوتي التي لم تتوقف الى الإخوان المسلمين ليدركوا ماذا فعلوا «ويفعلون» ليس فقط بنا بل بصورتهم أمام عامة الناس.
بدا في بعض خطابنا أننا استرحنا الى «العقاب الجماعي» لكل منتقبة أو صاحب لحية بدلا من أن ننشغل بالمحاسبة القانونية المنضبطة لأولئك المدانين بالدم أو بالتحريض عليه، أو الداعين صراحة الى انهيار الوطن والدولة، أو أولئك الذين لم يروا بأسا في أن يكون ثمن استعادة المنصب هو دفعنا برعونتهم الى الطريق السوري.
انشغلت بعض شاشاتنا بالصراخ «والتجريس الإعلامي»، وهو مدان قانونياً ومهنيا في كل الأحوال حتى في حق «المتهمين»، بدلا من أن تنشغل بأسئلة المستقبل الكبرى من قبيل كيفية التعامل بمنطق العصر مع إشكالية الإفراط في استحضار الدين «بأفكاره المطلقة» سلاحا تكفيريا في مواجهة المختلفين سياسيا (حدث هذا مع مرسي نفسه عندما التقى وفد الفنانين، ثم في «أزمة» السياحة الإيرانية)
استسهل بعضنا «منطقا أمنيا» في الإدانة الجماعية، دون أن يدرك خطورة ما يذهب بنا إليه، ودون أن يكترث الى أن بين الصفوف ألف قنبلة جاهزة للانفجار، بعد أن أريقت الدماء واستُلبت العقول والأفكار.
أسكرت بعضنا أنخاب ما حسبه انتصارا «في غير معركة»، فذهبت به النشوة أو لدد الخصومة بعيدا عن أسئلة اليوم التالي. والتي ربما يتصدرها: ماذاسنفعل «واقعيًا» مع أولئك الذين نجحت دعايات التكفير السوداء التي عمدت الى خلط الدين بخلافات السياسة في جعلهم يتصورون أنها معركة بين الإسلام ومعارضيه؟ إلى غير ذلك من أسئلة عرضنا لها هنا قبل أسبوعين (الشروق: ٢٥ أغسطس ٢٠١٣)
قد يكون صحيحا أن الإخوان، «ضيقي الأفق»، والتعبير لزميل التجربة سيف عبد الفتاح قد ضربوا أحلام شباب ٢٥ يناير في مقتل، وربما أكون، لأسباب مفهومة أكثر من يعلم ذلك، وأول من كتب في ذلك، ولكن صحيحٌ أيضًا أن في المشهد السياسي الآن، وخصوصا على شاشاته من يُجْهز، بحسن نية ساذج أحيانا، وبسوء نية في معظم الأحيان على هذه الأحلام.
أتدركون ما المفارقة؟ أن أكثر ما أساء الى الإخوان أو بالأحرى «كشفهم» هو خطابهم الإعلامي، وخاصة على المنصة التي كانت تلفزيونيا على الهواء على مدار الأربع وعشرين ساعة. وأن أكثر ما استفادوا منه شعبيا هو بعض الخطاب «الفج» لخصومهم… واسألوا المشاهدين.
أذكر أنهم كانوا يحكون لنا صغارًا عن «الدبة التي قتلت صاحبها».. ورغم صيف مصر الحار، يبدو أن كثيرة هي الدببة في هذه الأيام.
وبعد ..
أخشى أن أقول أن الإخوان أو «أنصارهم» لايتركون لك الفرصة لتستمتع بالقبض على الجمر تمسكا بمبدئك في «ألا تكون مكارثيًا»، فكلما دافعت عن حق «انساني» لهم، باغتوك باقتراف ما لا يمكنك أن تدافع عنه. وهو في الظاهر كثير، وما خفي «يعلم بعضنا» ربما أعظم.