أيمن الجندى يكتب | هشام
فلنعترف أولا أنه تحكمنا النظرة النمطية عن الشاب العازب الوسيم الذى لا يُبدى تدينا ظاهرا، فيما يتعلق بعلاقته بالنساء. حكاية مهندس الرى العازب، الذى لا ينى يغوى الفتيات، والتى جسدها أحمد مظهر فى فيلمه المشهور «دعاء الكروان». لذلك حين علمنا بمقدم المدير الشاب، شديد الوسامة، والمنحدر من عائلة ثرية راقية، فإننا تذكرنا فى الوقت نفسه عدد الفتيات العازبات الصالحات للزواج، أو حتى المتطلعات للحب والملاطفة. وتصورنا ما هو آت. خصوصا أنه لم يفتنى، منذ أن عُرف خبر مجيئه، تلاصق الرؤوس الجميلة لفتيات فى عمر الزهور. كن يتهامسن عن المجهول القادم، فوق جواد أبيض، يحقق الأمنيات النائمة والتنهدات المكتومة. حكاية الحب حين يقدح الحب، والربيع حين ينتظر الربيع.
وجاء هشام، أوسم مما تخيلنا، شابا فى نهاية العشرينيات، مدججا بشهادة الجامعة الأمريكية ودبلوم إدارة الأعمال. وشاهدنا الفتيات الجميلات بزيهن الأزرق الأنيق، وهن يطرقن مكتبه فى أدب، يحملن الدوسيهات لتعريفه بمجرى العمل. ولم يفتنى، وأنا أشاهدهن من خلف بابى الموارب، أنهن قد اهتممن بكى سترتهن وتصفيف شعورهن أكثر من المعتاد.
ومرت الأيام وأصبح وجوده بيننا أمرا معتادا، لكن الشىء الذى أدهشنا هو تحفظه فى التعامل مع النساء. خصوصا وقد تعلمت أن التنافس بين الفتيات هو أكثر ما يغريهن بالتمادى، ويجعلهن أشبه بثمرة دانية توشك أن تسقط تلقائيا فى يد الرجل دون أن يهز الشجرة أو يفعل أكثر من الانتظار.
لكن الحزم والتحفظ ظلا يحكمان تصرفاته، وقد بدا ذلك مدهشا خصوصا مع إعجابهن الظاهر، وفكرت إنه -ربما- الزهد الذى تُخلقه الوفرة، أو لعله يخلص لحبيبة غائبة برغم غياب الخاتم فى يده، أو لعلها تقوى فى القلب لا يعكسها السمت الظاهر لشاب عصرى! وفكرت أيضا أنه يصعب أن يطول صموده مع النظرات المغرية وخصلات الشعر المنسدلة مع ابتسامة جانبية وسائر حيل الفتيات.
وعادت الأيام تمارس شغفها المعتاد فى المرور. وأصبح هشام وجها مألوفا فقدنا الاهتمام بأحواله، حتى التقيت مصادفة بصديق قديم تبين أنه على معرفة وثيقة به. وأبديت إعجابا بخلقه وتحفظه لكنه صاح على الفور: «هشام! ده أكبر صايع وزير نساء». والتفت الناس حولنا، وجذبته ناصحا بالهدوء. ولكنه انثنى من الضحك وكأنه سمع دعابة لا يقوى على احتمالها. وانتحيت به جانيا وطلبت منه التفسير، معترفا بينى وبين نفسى بأن الأمر يعنينى، محاولا فهم ذلك الكائن الغامض الذى يُدعى « الإنسان».
قال صديقى فى تسامح، وكأنه يخاطب طفلا صغيرا غريرا: «إذا أردت أن تفهم هذه النوعية من الرجال فلتنزع أولا كل أوهام الاستقامة من عقلك أو رومانسية الحبيب المجهول، فذلك كله هراء. هشام اعتاد على علاقات كاملة بعشرات النساء. ولكن أمثاله لا يتورطون بسهولة، وربما لا يتورطون أبدا. هو مثل أى رجل خبير ذواقة يختار بعناية، ويكون متحفظا فى عمله ومنزله ومحيط معارفه، لأنه- ببساطة- لا شىء يدعوه إلى اللهفة التى يبديها المحرومون من الرجال. وإنه ليبدى لياقة مدهشة وحسن اختيار لرفيقاته بعكس الرجال الخام الذين لا سابق تجربة لهم».
وبدا على صديقى الحزن وهو يقول: «مما يُؤسف له أن أغلب الفضائح تقع للذين عاشوا حياتهم فى استقامة كاملة ثم فقدوا توازنهم فى لحظة ضعف مفاجئة فلم يحسنوا التصرف ولا الإخفاء».