عمرو خفاجى يكتب
شهداء الحقيقة
حينما رحل سليم اللوزى الصحفى اللبنانى الشهير مقتولا بسبب مواقفه، وآلت مجلته السياسية الأشهر (الحوادث) لملحم كرم نقيب المحررين التاريخى فى لبنان (كان نقيبا لنصف قرن تقريبا) اختار ملحم شعار «علمتنى الحقيقة أن أكرهها فما استطعت»، وهى مقولة لوالده الأديب والصحفى المعروف ملحم كرم ملحم، على اعتبار أن الحقيقة وكشفها هى مهمة الصحافة ووظيفتها الأولى، وأن الحقائق فى الغالب، وللأسف الشديد، تدعو لكراهيتها، لكن حب المهنة أقوى من كراهية الحقيقة، والإخلاص لها لا يعنى سوى ذكرها ــ أى الحقيقة ــ حتى ولو نكرهها.
تذكرت «الحوادث» وملحم كرم وأباه، مع وقفة الزملاء الأعزاء المصورين الصحفيين، أمس الأول (الجمعة) احتجاجا على ما يتعرضون له، هم وزملاؤهم الذين يغطون الأحداث ميدانيا، والذى وصل لحد القتل كما حدث للزميلة الشهيدة ميادة أشرف الأسبوع الماضى، والذى كان دافعا لهذه الوقفة الإحتجاجية، وما لفت انتباهى، صراحة، ما ذكرته زميلة مصورة، بأن المصورين مستهدفون من الجميع، من الداخلية ومن المتظاهرين أنفسهم، وحتى من الذين يراقبون هذا العراك بين فسطاط الأمن وفسطاط المتظاهرين، فهل فعلا لا يوجد طرف معنى بالحقيقة، وهل أصبحنا فعلا نكره الحقيقة، أم سنستطيع أن نواصل حب مهنتنا ونستمر فى كشف الحقائق للرأى العام؟
ما ذكرته زميلتنا كان واضحا وجليا أمامنا جميعا منذ أن قامت الثورة، فلا نظام مبارك صدق حقيقة أن الشعب ثار عليه، وقال «كنتاكى ومأجورين ومخابرات دول أجنبية ومؤامرة كونية» ولا مرسى وجماعته صدقوا أن الشعب طلب خلعه وارتاح لفكرة «الفوتوشوب وبضعة آلاف فقط من المتظاهرين من الضباط والجنود وأسرهم»، ثم تاهت الحقيقة تماما الآن فى طل حالة الاستقطاب الحاد التى تسبب العمى للجميع إلا من رحم ربى، وبالتالى تجاوز الأمر حدود كره الحقيقة إلى اغتيالها ونفيها من واقعنا وصار كل فريق لا يعرف أو يعترف إلا بالحقائق التى يطلقها ويعلنها، فى ظل نفى كامل لكل الحقائق الأخرى حتى لو سمعها بأذنيه وشاهدها بأم عينيه.
كره الحقيقة يفضى إلى كره من يكشفها ويعلنها للرأى العام، وصارت الكاميرات ومن يحملها هدفا لكل كاره للحقيقة وللحق، طبعا لا نملك أدلة على الاستهداف كما يقول زملاؤنا المصورون، لكن قتل ١٢ صحفيا فى عام واحد يدفعنا للتشكيك فى ذلك والمطالبة بكشف من وراء قتلهم. الإعلام، حتى لو كثرت ملاحظاتنا عليه، هو السبيل الوحيد لإفساح المجال لكشف الحقائق للرأى العام، فبدون الحقيقة لن نخرج من مأزقنا، بل بدونها لن نعرف حجم المأزق والمستنقع الذى سقطنا فيه، وعلينا أن نؤمن جيدا باحترام الحقيقة والتعامل معها، لا رفضها، لأنه، وباختصار شديد، رفض الحقيقة أو منع إعلانها، لن يغير من الأمر شيئا، فحينما تسكن الجماهير لن يخترع أحد غضبها وهياجها، وعندما تثور الجماهير لن ينجح أحد فى إخفاء ثورتها.. رحم الله كل الزملاء من شهداء المهنة.. شهداء الحقيقة.