أيمن الجندي يكتب | المسافرة
اكتمل عدد الركاب وبدأت الحافلة فى التحرك. فى العادة تستغرق الرحلة سواد الليل. تغادر عند منتصف الليل وتصل فى السادسة صباحا. ومن خلف زجاج النافذة ألقى نظرة محايدة على بيوت المدينة العجوز. بعض الحزن! بعض الخوف! بعض الإثارة! وهناك الأمل الذى لا يخلو منه شاب مثله، ولعل هذه الوظيفة تكون أكثر دواماً واستقراراً.
وضغط وجهه على النافذة، محدقا فى الظلمة المتراكبة. وأطفأ السائق الأضواء الداخلية عدا ضوء خافت ينبعث من السقف، وأدار شريطا لأم كلثوم. وامتزج الشجن بالليل والسفر، وتعالى شخير العجوز الجالس خلفه. واستندت بعض الرؤوس على حافة المقعد. لكنه لم يشعر بميل للنوم. وراح يستعيد سهرة الأمس مع أصدقائه.
كانت قد مضت ساعتان على الأقل حين توقف السائق فى المحطة التالية. وصعد بعض الركاب فى صمت. وحين بدأت الحافلة فى التحرك شاهد امرأة تسير فى الممر رغم أنه لم يرها وهى تصعد، وانعكست اللمعة الطفيفة من سقف الحافلة على وجهها فبدت مسربلة بالفتنة والغموض. كانت تقترب منه، وخفق قلبه وتمنى أن تجلس بجواره. وراح يخاطبها فى عقله: «اجلسى بجوارى. اجلسى بجوارى». فتوقفت وألقت إليه ابتسامة غامضة جعلته دائخا من الفرحة. لكنها فى اللحظة التالية تجاوزته وشقت طريقها عبر الممر لتجلس بجوار رجل آخر. وأحس بخيبة أمل وأن هذه المصادفات الحلوة لا تحدث له أبدا. لشد ما تمنى أن يتخفف من سأم الرحلة ويستعين بها على ملل الطريق. لشد ما تكون البداية لعلاقة عاطفية دافئة! الفتاة جميلة فعلا. ونظر إلى جارها بالمقعد فى حقد. يا له من وغد محظوظ!
والتفت ليدرس وجهها المتلفع بعباءة الظلال. وسرى تيار بارد لم يدر مصدره. والحافلة تطوى الصحراء طيا، ولكن لا أحد يطوى الصحراء الممتدة داخله. وأم كلثوم تثير الحزن بقدر ما تبعث الطرب. وظلت الفتاة صامتة حتى بدأها جارها بالحديث. وشعر بالبرودة أكثر فتكوم على نفسه، ورأى أن أفضل ما يصنعه هو النوم. وسقط رأسه بالفعل وانزلق فى غفوة مريحة. وحاول أن يرى من خلال النافذة أى علامة تشير إلى المسافة المتبقية. ثم تذكر الفتاة المسافرة فالتفت نحوها فى اهتمام. لكنهما كانا فى شغل عنه. كانا يتحدثان فى ألفة، وانخفض صوتهما حتى أصبح همسا. وقد تضاما إلى الحد الذى تلاصق فيه جسداهما. وأحس بالكدر وازداد شعوره بالبرد حتى صار لا يُطاق. وتابع النظر إليهما فى إصرار. ورآه وهو يمد يده ويحيط كتفيها. وهمست له بشىء. ورأى من خلال الظلال دنو وجهها من وجهه. وتملكه الذهول حين شاهدها تقبله قبلة عميقة طويلة متصلة. ونظر حوله فى دهشة لكن المسافرين كانوا يغطون فى نوم عميق.
وطالت القبلة أكثر من اللازم. ومال رأسه إلى الخلف وكأنه دائخ من الفرحة. وشاهدها وهى تنهض وتسير فى الممشى فى ثبات رغم اهتزاز الحافلة صوب مؤخرة العربة حتى ابتلعتها الظلال.
وانبلج الفجر وتوقف البرد فجأة وبدأت خيوط الضوء تنفذ من النافذة. واستيقظ الركاب تباعا عدا الرجل إياه الذى ظل رأسه مائلا إلى الخلف. وهزه أحد الركاب ثم صرخ أنه ميت. انتفض من مقعده وقد أفزعه أن تلك المسافرة الغامضة لم تعد موجودة رغم أن الحافلة لم تتوقف قط، وانتابته قشعريرة حين فهم أنها كانت هى الموت ذاته.