وائل عبد الفتاح يكتب | وماذا سيفعلون بعيونهم الكبيرة؟
.. وما دمنا سنعيش الفترة القادمة فى منتجات مصنع الفضائح، فإننا نحتاج إلى تنشيط فكرة قديمة عندى عن «العصر الفيكتورى المصرى».
الفكرة عادت وأنا أتأمل عملية تزييت ماكينات مستهلكة لإنتاج الفضيحة، لم ينتبه أحد من الصناع والتجار والجمهور إلى أن «السوق» تغيرت، لم تعد بنفس الحماسة القديمة، وأن البضاعة صلاحيتها أقل من تكلفة التصنيع.
بمعنى آخر إغراق السوق بالفضائح فى عصر بلا رقابة تقريبا عملية باهظة التكلفة، قليلة العوائد، لأن «التلصص» على حياة الآخرين بعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة وتوفر تقنيات تسجيل الصوت والصورة للجميع /أضفى على امتلاك التقنية فى الأجهزة الأمنية الرونق القديم وخفف من السلطة الناتجة عن هذا التجسس.
هذا عكس الأوهام بأن انتشار تقنيات المراقبة سيعزز سلطة المراقب، أو أن نشر الفضائح سيقوّى النظام الأخلاقى القائم على مراقبة حياة الآخرين.
الفضيحة إعلان بأن النظام الأخلاقى انتهت صلاحيته ولم يعد قادرا على الاستمرار، فالأخلاق نسبية، وما كان يمكن اعتباره قيمة أخلاقية فى زمنٍِ، يصبح فى زمن آخر جريمة، ولهذا فإن العرب الذين اعتبروا «وأد البنات» قمة نظامهم الأخلاقى (التى كانت فى الحقيقة تخدم مصالح اقتصادية فى توزيع الثروة على الذكور الأقوياء) هم أنفسهم الذين اعتبروها جريمة بعد اكتشافهم نظاما أخلاقيا جديدا (يمكّنهم دخول الإسلام من إعادة توزيع الثروة وإضافة شرائح مُبعَدة اجتماعيا مثل العبيد).
وكما أن عادة الثأر فى الصعيد كانت تعبيرا عن «الذكورة الصلبة» التى كانت عماد القبيلة فإن الدولة والمجتمع بعد دخول الحداثة حاربت العادة واعتبرتها رمزا للتخلف، يمكن أن تجاريها كما يحدث الآن. لكن المجاراة تعبير عن ضعف فى المواجهة أو الرغبة فى إبقاء «التخلف» مهددا للحداثة لا للسلطة التى تحكم باسم الحداثة.
مصانع الفضائح هى فضيحة النظام الأخلاقى الذى تقوم فيه السلطة بفرض هيمنته باعتبارها مالكة حق التجسس على حياة وأفكار الفرد (حمايةً له وللمجتمع)… بهذه الحجة الكاذبة تبنى السلطة المستبدة أدوات تحكمها فى المجتمع بوضع الجميع فى مرمى أجهزة تنصتها «كل واحد وعنده فضيحة… وكل حياة شخصية مستباحة».
السلطة هى العين الكبيرة والأذن الكبيرة التى توكِّل عيونا وآذانا أصغر فى مناطق اجتماعية (الأغنى، وفى المركز غالبا) أو تتقاسم وتُدعَم من السلطات الاجتماعية فى مناطق أخرى (الأفقر، والمقيمة فى الهامش غالبا).
..وماذا تفعل السلطة بعينها وأذنها…؟
يصبح واحدا من أساليب سلطتها تدعيم النظام الأخلاقى القائم على رقابة الحياة الشخصية لأن هذه نقطة قوتها فالمعارضة -أىُّ معارضة- «فاسدة أخلاقيا/ وتدعو لنشر الرذيلة/ والإباحية» كما أن استباحة حياة كل شخص لها مبررها «النبيل» فى الحفاظ على الأخلاق.
إنها الأخلاق الفيكتورية التى تبرر سلطة رقابتها بالأخلاق ثم تسحب نفسها إلى عوالم سرية من اللذة والمتع.
فيكتوريا هى أشهر ملكات بريطانيا.
حكمت عندما كان أسلوب الحياة الإنجليزى مثل الأمريكى، الآن هو الموديل القابل للانتشار. بداية من طقس شرب الشاى فى الساعة الخامسة بعد الظهر حتى النظرة إلى الحب والجنس.
عصر فيكتوريا هو قمة عظمة بريطانيا. الإمبراطورية الغنية القوية التى لا تغيب عنها الشمس من القاهرة إلى الهند… وكان اسم الملكة هو علامة أبّهة وقوة الإمبراطورية ودلالة على مجتمع أراد أن يصور نفسه نموذجا للتمسك بالفضيلة والتقاليد.. تمسُّك إلى حد التَّزمُّت.
اشتهر العصر بالحياة السرية التى يمارس فيها الأغنياء والأقوياء حياة سرية تتطرف فيها النزوات الجنسية إلى حدود لم تعرفها البشرية حتى الآن (وهذا ما جعل أشهر مواقع البورنو على الإنترنت.. تسمى نفسها بأسماء تلعب على فكرة العصر الفيكتورى)…
وفى المقابل كان التزمُّت هو عنوان الحياة العلنية.. ادعاء للفضيلة وكلام عن الأخلاق الرشيدة.. وتعليمات بانضباط مهذب فى علاقات الغرام (وصل إلى حد تغطية أرجل الطاولات لأنها تثير الغرائز كما قلت).
فيكتوريا نفسها كانت متطرفة فى التمسك بالأخلاق.. لكن الأيام كشفت فضيحتها مع خادم الإسطبل الملكى الذى أنجبت منه طفلة تستّر عليها خبراء القصر وأخفوها فى ألمانيا.
أى بدلا من إعلان الحقيقة وهى احتياج الملكة إلى الحب بعد وفاة زوجها… مارست حريتها فى السر.
وكانت هذه سمة العصر الفيكتورى.
المجتمع المصرى عاش فى السنوات الأخيرة العصر الفيكتورى «لكن بلا أبهة ولا قوة الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس..» يمارس فى السر ألعابا مبتذلة فى الحب والجنس.. من الزواج العرفى إلى انتشار شبكات بيع المتع الرخيصة إلى حد غير مسبوق وبتقاليع على حدود التطرف.. وكل هذا تحت ستائر ثقيلة من الالتزام بالشكل «الحجاب..
وترديد آيات دينية قبل كل لقاء غير شرعى.. حتى إن بعض المحترفات بعد أن تقبض ثمن ليلتها تقول الحمد لله.. وفى عز العلاقة الساخنة تتوقف فجأة لأنها سمعت الأذان..».. كل هذه سمات العصر الفيكتورى (هم أيضا كانوا يهتمون بالأدعية المسيحية والملابس المحتشمة..).
.. وما زال حديثنا عن العصر الفيكتورى المصرى فيه ما يُحكَى.
المصدر:الدستور