فهمى هويدى يكتب | «بركات» فى الجزائر
تجرى فى الجزائر اليوم واحدة من الانتخابات النمطية التى صارت من سمات العالم الثالث، حيث النتيجة معلومة سلفا، والرئيس الحالى هو الرئيس القادم. وطقوس الانتخابات تجرى على سبيل التجمل الديمقراطى. وهى فى حقيقتها تجديدا للبيعة وتكريسا للوضع القائم. مع ذلك فإنها تكتسب بعض الخصوصية التى تميزها عن الجمهوريات المتعارف عليها فى العالم العربى، ذلك ان الجميع يعرفون أن الجزائر يحكمها الجيش منذ الاستقلال فى عام 1962. ومن المقولات التى تشخص هذه الحالة قول البعض بأن كل دولة فى العالم لها جيش. الجزائر حالة استثنائية لأن الجيش فيها له دولة. فى هذا السياق تستدعى تجربة الجيش التركى الذى اعتبر نفسه مؤسس الجمهورية وحارسها، بعدما حرر البلد من الاحتلال فى الحرب العالمية الأولى، وهو ما فعلته جبهة تحرير الجزائر. وإن اختلف الأمر فى المآلات. لأن قوى المجتمع نجحت فى التخلص من قبضة العسكر فى تركيا، لكنها فشلت فى ذلك فى الجزائر، حتى الآن على الأقل.
منذ الاستقلال والمؤسسة الأمنية التى يديرها الجيش هو الذى يحكم من وراء ستار. فيرشح الرؤساء أو يستبدهم. ومنذ جاء الجيش بالسيد عبدالعزيز بوتفليقة وقدمه رئيسا فى عام 1999 والرجل مستمر فى وظيفته. ولأن الدستور الجزائرى كان ينص على ولايتين فقط للرئيس، فإن ذلك لم يكن عقبة، لأن النص جرى تعديله (كما فعل السادات فى مصر) وصار من حق الرئيس أن يترشح لعدة ولايات وليس اثنتين فقط. وبناء على ذلك انتخب بوتفليقة لولاية ثالثة فى عام 2009، وها هو الآن يترشح للمرة الرابعة. ولكن ذلك يتم فى ظروف مغايرة إلى حد كبير. ذلك ان الرجل البالغ من العمر 77 عاما أصيب بجلطة دماغية فى العام الماضى اضطرته للسفر إلى فرنسا للعلاج، وبعد أن قضى هناك حوالى ثلاثة أشهر، عاد على مقعد متحرك وغير قادر على التعبير عن نفسه، حيث بات يجد صعوبة فى النطق. ولذلك فإنه لم يظهر فى مناسبات عامة إلا فى مرات نادرة. ولم يتحدث إلى الجماهير وهو الخطيب المفوه. لذلك فإن حملته الانتخابية يباشرها مساعدوه. الأمر الذى يعنى أن الرجل الذى أصبح عاجزا عن السير على قدميه قرر أن يخوض المعركة الانتخابية مصرا على أن يستمر فى تسيير شئون الدولة.
وبسبب حالته الصحية غير المطمئنة فإن نقاده ومعارضيه أصبحوا يشكون فى دوافع القوى المحيطة به. التى تتمثل أساسا فى المؤسسة الأمنية كما تتمثل فى محيطه العائلى، وبخاصة شقيقه الذى يثار حول دوره لغط كثير.
حجة مؤيدى بوتفليقة أن الساحة الجزائرية تفتقد إلى قيادة كاريزمية تلتف من حولها الجماهير. من ثم فإنهم اعتبروا بوتفليقة الأكثر قبولا والأوفر حظا. ورغم انه لم يستخدموا مصطلح «مرشح الضرورة» الذى جرى صكَّه وتسويقه فى مصر، إلا أن السلوك السياسى المتبع قدَّمه فى هذا الإطار. وفيما سمعت من بعض المثقفين الجزائريين فإن أنصار بوتفليقة استخدموا لصالحه المتغيرات السلبية التى حصلت على العالم العربى بعدما هبت عليه رياح «الربيع» فى عام 2011. وحذروا من ان يتكرر فى الجزائر ما حدث فى مصر وليبيا وسوريا واليمن. حيث ادعوا فى هذا الصدد ان التعبير الذى حدث لم يجلب الأمن أو الاستقرار لتلك الأقطار. ووجدت تلك المقولة آذانا صاغية فى بعض الأوساط خصوصا ان بقايا الجماعات المتطرفة لايزال لها وجود فى جنوب الجزائر. وما حدث فى مالى على أيدى الجماعات المنسوبة إلى «القاعدة» ليس منها ببعيد.
المتغير الآخر المهم كان فى بنية المجتمع الجزائرى ذاته. ليس فقط لأن عالم القرن الواحد والعشرين مختلف عن عالم القرن العشرين، ولكن أيضا لأن رياح الربيع التى هبت على العالم العربى لم تستثن دول المغرب، حيث ما كان لها ان تهب بغير صدى لها فى الجزائر. ورغم السلبيات التى شهدتها دول الربيع، فإن ذلك لم يغير من حقيقة شوق الناس إلى التغيير وجرأتهم على المطالبة بحقوقهم فى الحرية والعدل. آية ذلك انه حين أعلن الوزير الأول الجزائرى (رئيس الوزراء) عبدالمالك سلال عن اعتزام بوتفليقة الترشح لولاية رابعة، فإن بعض شرائح المجتمع أعربت عن احتجابها بسرعة فى حركة رفعت شعار «بركات» وهو مصطلح مماثل لكلمة «كفاية» فى مصر. ونظم هؤلاء بعض المسيرات فى العاصمة، شارك فيها مثقفون ومواطنون من كل الفئات. كما انطلقت أغان بالفرنسية والعامية الجزائرية، نددت بترشيح بوتفليقة وسخرت منه، إلا أن ذلك لن يغير الكثير فى النتيجة التى يعرف الجميع انها محسومة لصالح الرجل الذى تسانده المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية إضافة إلى الإعلام الرسمى وشبكة المصالح المرتبطة بالنظام المتحكم فى السياسة ومصير البلد منذ أكثر من نصف قرن.
الملاحظة الأخيرة الجديرة بالانتباه أنه فى حالة نجاح بوتفليقة فإنه لن يصبح فى العالم العربى اية انتخابات رئاسية ديمقراطية حقيقية، ذلك أنها جميعا ستكون أقرب إلى الملكيات التى يتولى السلطة فيها أشخاص متشبثون بالسلطة ومعروفون سلفا. وستكون تونس وحدها استثناء فى العالم العربى، حيث سيصبح الدكتور منصف المرزوقى هو الرئيس الوحيد الذى تولى السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية حرة لم تحسم قبل اجرائها.