معتز بالله عبد الفتاح يكتب | باسم صبرى: صوت الثورة العاقل.. المتحضر الذى مات
معتز بالله عبد الفتاح يكتب | باسم صبرى: صوت الثورة العاقل.. المتحضر الذى مات
هذا شاب رائع قفز إليه الموت الذى يحبو فى طريقنا. يستحق أن نتوقف أمامه بالكثير من التقدير والتعلم.
«باسم» تواصل معى لأول مرة عبر رسالة على تليفونى يقول فيها: «أنا أحد متابعيك باهتمام، أرجو التواصل. باسم صبرى»، وحين تواصلت معه وجدته يتصل بى ليواسينى ويطلب منى ألا أنزعج من هجوم بعض شباب الثورة المتحمس على شخصى المتواضع ثم تواعدنا والتقينا مرات عديدة.
فى كل مرة، كنت أكتشف جانباً آخر من شخصية إنسان «منصف» لا يبالغ فى تشويه من يختلفون معه ولا يفتعل مواقف من أجل ادعاء بطولة زائفة، ينتقد تقريباً مواقف الجميع ممن يرى فيهم ما يستحق النقد. لم أرَه مدافعاً عن أحد بغشومية أو من باب «أصل أنا بأنتمى للفصيل الفلانى فلا يمكن انتقاده أو أنا أكره الفصيل العلانى فلا بد من انتقاده».
هو إنسان ثورى – إصلاحى يرى أن الثورة ما كانت إلا رد فعل على انعدام سبل الإصلاح فى عهد «مبارك» وأنه لا مجال لنجاح الثورة إلا بأن تصل، سواء بأهدافها أو بأشخاصها الملتزمين بأهدافها إلى مؤسسات الدولة لإصلاحها وليس لهدمها. هو إنسان ليبرالى يجسد المعنى الحقيقى لليبرالية القائمة على التسامح السياسى وقبول الآخر القابل للآخرين وليس الطارد لهم، ما دام يلتزم الجميع بالقانون والدستور. ومع الأسف فإن كلمة «ليبرالية» فى مصر فقدت الكثير من رونقها؛ لأن ممارسات الكثير من المتحدثين باسمها والمعادين لها أخرجتها عن معناها الأصيل إلى أمور فرعية ما كان ينبغى أن تكون على مائدة النقاش أصلاً.
هو إنسان وكفى. قلت له ذات مرة: «يا باسم، إن فيك صفتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. وهو نفس نص حديث للرسول، صلى الله عليه وسلم، مخاطباً أحد أصحابه». وكان رده: «تفتكر؟»، فقلت له: «يبدو لى ذلك. عرفت فالزم».
كان مشغولاً بمن يلقى عليهم القبض جزافاً. كان يقدم لى المعلومات وأنا أجتهد فى التواصل مع الجهات المعنية لمزيد من التحقيق والتدقيق حتى نرفع الظلم عن المظلومين. وكانت آخر مكالماتى معه بشأن اثنين من الشباب تم الإفراج عنهما. وكان سعيداً وكأنهما من أقربائه المقربين.
لو كان معظم شباب الثورة يتخلقون بخلقه ويفكرون بمنهجه، لكنا فى واقع غير الواقع الذى نعيشه. بعض «الثورجية» يظنون أنهم أبطال حين يشتمون ويسبون. الحقيقة هم يزدادون زعامة بين أقرانهم المحدودين ولكنهم يزدادون بعداً عن بقية المجتمع الذى يفترض أنهم يسعون لقيادته وتوجيهه.
أدعو أصدقاءه المقربين أن يجمعوا كل ما كتب «باسم» بالعربية والإنجليزية وأن يسجلوا مواقفهم الشخصية المهمة معه وأن يطبعوها فى كتاب حتى لا يذهب عطاؤه سُدى. وأدعو الشباب أن يقرأوا له ما كتبه وسجله وكيف كان يتفق ويختلف. أدعوهم أن يقرأوا لكاتب وإنسان «متحضر» اسمه باسم صبرى.
والحقيقة أن الدعاء له بالرحمة والمغفرة لا يفوت علينا فرصة الدعاء لوالديه بالصبر وتوجيه الشكر لهما لأن نبتة «متحضرة» مثل «باسم» لا تخرج إلا من أسرة «متحضرة» تعرف كيف تربى أبناءها على الخلق والفضيلة واحترام الآخرين مهما اختلفنا معهم. ومن يحسن تربية أبنائه فى زمننا هذا، فهو كالقابض على الجمر.
وأختم كلامى بجزء من واحدة من أروع وآخر مقالات باسم صبرى، عليه رحمة الله:
«مرات قليلة جداً، بحسب ذاكرتى المنهكة والمستنفدة، كنت متعصباً لرأى ما، لكننى لم أوصم شخصاً ما حولى بأنه (فلول) أو (كنبة) أو (ليس ثورياً بما يكفى) أو (عبداً) أو أهنته متعمداً بما شابه من ألفاظ وأساليب فى الحوار انتشرت فى أجواء الاستقطاب المخيف والدماء، واحترمت كل صاحب رأى أو موقف أو مبدأ كان يرى فيه محاولة صادقة لفعل ما هو فى مصلحة وطن، وحاول صاحبه أن يتفكر فيه بصدق. ربما كان التعصب يثير غضبى بشكل رهيب، والسلبية التامة لدى البعض هى كانت كذلك من أكثر ما يغضبنى للغاية، ولكننى كنت أعرف كذلك فى نفس الوقت أن البعض وصل لهذه السلبية لأنه لم يجد بديلاً مقنعاً له لكى يتبناه، أو لأنه كان مقتنعاً بأن جهده لن يفيد بسبب ما مررنا به قديماً أو حديثاً، وأن ذلك التعصب هو فى الكثير منه نتيجة طبيعية لما مر به البعض.
حاولت قدر الإمكان البحث دائماً عن الحلول التى قد ترضى أطرافاً كثيرة. رفضت نظرية أن الأمور تدور دائماً حول الأبيض والأسود، وآمنت بطيف الألوان فى الآراء والحلول والأفكار. ولكن كانت هناك دائماً بعض المبادئ والأفكار التى آمنت بها، وآمنت أنها تستحق الدفاع عنها، وأنها تمثل ما يفيد الكل وليس البعض فى نهاية المطاف، وأنها ليست بالضرورة انتصاراً لأيديولوجيا أو مجموعة بعينها حتى إن كان بها لمحة ليبرالية واضحة. لا أتحدث نيابة عن أحد، وفقط أقول: إن هذه المبادئ تمثل ما تعنيه الثورة بالنسبة لى، فى يناير وفى يونيو. وأود أن أحذر القارئ من كمية من المثالية المثيرة للغثيان أحياناً فى الكلمات المقبلة، وإلا أننى كذلك أود أن أوضح أن عزاء القارئ ذاته هو أن الكاتب هو شخص يدرى أنه أبعد ما يكون عن هذه المثالية. أريد قواعد ومبادئ أساسية وسياسية وإنسانية وقانونية لا نختلف عليها ونطبقها طوال الوقت وعلى الجميع ودون استثناء.
من يريد أن يغير آراءه ومبادئه فهو حر بالتأكيد، وأحياناً يكون فى ذلك نمو وتواضع ونزاهة، ولكننى أبغض ادعاء شخص ما الدفاع عن نفس المبادئ بحماسة عنيفة وتخوين لكل من هو غيره وهو يناقض نفس تلك المبادئ بشكل صريح وعلنى. أريد أن يكون الطبيعى هو التطبيق العادل للقانون العادل الذى تمت صياغته بشكل عادل ووافٍ ويعبر عن توافق واسع وعادل. لا أريد ازدواجاً فجاً وصريحاً فى المعايير لدى الأفراد أو المجتمع أو سير العدالة أو الدولة ومؤسساتها. أريد حقوقاً تنطبق على الحر والمسجون، والبرىء والمذنب والمتهم، والحاكم والمعارض والمحايد، والغنى والفقير ومن بينهما، ساكن الحضر وابن الريف وقاطن العشوائيات (حتى تختفى العشوائيات ويجد أصحابها بيوتاً تليق بإنسانيتهم)».
انتهى هذا الجزء من مقال باسم صبرى فى «بوابة يناير» فى 21 مارس الماضى. أرجو أن نعيد قراءته. مجتمع أكثر تسامحاً مع المخالفين فى الرأى والمختلفين فى التوجه سيؤدى إلى المزيد من التحضر مثلما كان «باسم صبرى».