تخيل أن قائد الجيوش قرر إلغاء استخدام الآباتشى والصواريخ العابرة للحدود والطائرات بدون طيار واستخدم بدلًا منها الخيل والسيف وربما المنجنيق..
تخيل الصدمة قبل النتيجة/ ستضحك؟ ربما ستضحك.. لكننى أردت من التشبيه التفكير فى ما قاله السيسى فى اللقاء المجمع مع الإعلاميين.
السيسى قال إن «المُلك» (بالضمة على الميم) يأتى إليه من الله وليس من شىء آخر.. وكما أن المنجنيق ليست الآباتشى فإن «الرئاسة» بمفهومها الحديث ليست «المُلك» بمفهومها عند حكام القرون الوسطى أو الممالك الإسلامية.
مفاهيم مختلفة تمامًا ومفارقة، إعادتها الآن تشير إلى «خطر قادم» لا يرتبط بالسيسى أو غيره/ ولكنه يرتبط بمنظومة مفاهيم لم تعد صالحة/ تقود إلى كوارث سياسية، لأنها مفاهيم خارج الزمن/ تقال لترويض الشعوب/ وانتهت مع زمنها والعقل الذى كان فيه مسيطرًا، لأنها لم تستوعب التغيرات ولا طبيعة المجتمعات.. وتخيل إذا كان حكم الكنيسة فى القرون الوسطى استمر أو أن السلطان عبد الحميد لم يكن آخر سلاطين المسلمين.. وكلاهما كان يقول الملك من عند الله بالمعنى الذى يقتل فيه منافسيه.
وتخيل أيضا أن منافسًا آخر ادّعى أن الله منحه الملك/ وهناك منافس فعلًا يقول ذلك/ بل اثنان وليس واحدًا/ مبارك والمرسى كل منهما قالها فى يوم من الأيام.. كأساس الحكم وعقد السلطة مع المجتمع.
لماذا يعيد السيسى ما قاله مبارك والمرسى؟
وهذه ليست المرة الأولى فقد قال قبل ذلك: «إن الكرسى مكتوب عليه اسم من سيجلس عليه» وهو مفهوم للسياسة يلغى منها إرادة الشعب/ أو التنافس ويجعل المنتصر اختيارًا إلهيًّا.
لماذا لا يقدم المرشح نفسه بما لديه من برنامج سياسى ورؤية لمستقبل البلاد؟
لماذا لا يتواضع كل مرشح ويقدم قدراته وإمكاناته وتصوراته لما يمكن أن تكون عليه سنوات حكمه/ لا يتعامل على أنه إلهام السماء ووحيها ليختاره الشعب؟
الرئاسة مفهوم الحاكم المتغير، أما الملك فهو الحاكم الأبدى/ الرئيس موظف وليس مالكا لكل شىء.. الفارق كبير يا سيادة المرشح، ألم يقل لك مستشاروك الكثر؟/ ألم يفهمك أحدهم أن هذه المفاهيم أودت بسنوات من عمر شعب كان يتمنى الخروج من حفرة الانحطاط التى غرق فيها 30 سنة كاملة.. مرة أخرى: لماذا يرى الرؤساء أنهم أقدارنا؟ وليسوا اختياراتنا؟ هل هو تعالٍ/ أم خوف/ أم مفهوم يريد بناء قداسة سابقة التجهيز. لماذا أعيد ما كتبته أيام مبارك.. كلما ظهر رئيس أو مرشح ليقول إنه اختيار الله.. كتبت مقالًا بعنوان «الله لا يختار الرؤساء» عندما سأل صحفى ألمانى مبارك فى مؤتمر صحفى مع برلسكونى عن نيته للترشح للرئاسة.
أجاب مبارك مبتسمًا: الله وحده هو الذى يعلم. الصحفى أعاد السؤال بطريقة أخرى: من تفضل لخلافتك؟
والرئيس كانت إجابته مذهلة: «من يعلم.. من يعلم .. الله وحده يعلم من يكون خليفتى».
مبارك نظر إلى السماء، وهو يكمل الإجابة: «أفضل من يفضله الله». هذا أول حوار مباشر عن طريقة تفكير الرئيس مبارك فى عملية انتقال السلطة. الرئيس يفكر فى التغيير بمنطق «الاختيار الإلهى»، ورغم أنه من الناحية العلمية، الله لا يختار الرؤساء. إلا أن ما يقوله الرئيس يعنى واحدة من ثلاث. الأولى أن الرئيس مؤمن بأن الرئاسة قدر لا يملك أن يغيره إلا الله.
والثانية أنه اقترب من الفكرة التى يؤمن بها المغرمون بالدولة الدينية الذين يرون الحاكم وكيل الله، أو أن الله هو الذى يختار الحاكم، فمن يغير إرادة الله. والثالثة أن الرئيس مبارك وصل بعد ٣٠ سنة من الحكم إلى يقينٍ بأن هناك إرادة عليا تختار الرئيس، وأنه ينتظر الوحى من السماء ليقرر اسم خليفته. المعانى الثلاثة تدور كلها حول حقيقة واحدة: إلغاء السياسة. مبارك بدأ فى هذه الكلمات العابرة، أقرب إلى توضيح عقلية النظام كله.. النظام المستمر فى طبعته القديمة الأولى (مبارك وشركاه) والثانية (المرسى وجماعته).