فهمى هويدى يكتب | رفع الإصر عن كلام رئيس مصر 2 حلم الديمقراطية المؤجل
هل كانت الثورة ضد توريث الابن أم أنها كانت ضد الأب ونظامه الذى ضاق الناس به؟ ليس هذا سؤالا فى التاريخ، ولكنه سؤال فى صلب الرؤية السياسية للنظام الجديد. وإذ بدا أننا تجاوزناه بعد مضى أكثر من ثلاث سنوات على الثورة، فإن الكلام الأخير للمشير السيسى مع الصحفيين يعطى الانطباع بأن السؤال يحتاج إلى حسم، وأن الإجابة التى قدمها بحاجة إلى مراجعة وتصويب.
فى النصين اللذين نشرا فى جريدتى الأهرام والشروق يوم 8 مايو انه «كان منتهى الأمل قبل ثورة 25 يناير (عام 2011) ألا يتم التوريث، وقد وردت الجملة بهذه الصيغة فى الصحيفتين، وهو ما أزعم أنه حكم ناقص الصياغة ويفتح الباب للالتباس وسوء الفهم. هو ناقص لأن إسقاط مشروع التوريث لم يكن غاية المراد، وإنما كان فى أحسن فروضه أحد الأسباب التى أججت غضب الناس وأشعرت المجتمع المصرى بالمهانة، ولا يشك احد فى ان الجميع كانوا مدركين ان قضية التوريث فرع عن اصل تتمثل فى سياسة مبارك وجماعة المنتفعين به ومنه، وفى فساد النظام واستبداده، الدليل الحاسم والمباشر على ذلك أن الثورة لم ترفع آنذاك شعار «لا للتوريث»، ولكنها ركزت على العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولأن المشهد لايزال حيا فى الذاكرة فإن أحدا لا يستطيع ان يدعى بأن إسقاط التوريث كان المطلب الأساسى، بل أن إسقاط النظام كان الهدف وإقامة نظام جديد ينشر الحرية والكرامة ويحقق العدل الاجتماعى كان غاية المراد، ولأن الأمر كذلك فإننى أخشى ان تفتح العبارة التى نسبت الى السيسى فى لقائه مع رؤساء تحرير الصحف الباب للتأويل وإساءة الظن، والادعاء بأن المشكلة كانت مع الوريث وليست مع النظام، ولست أشك فى ان ذلك التأويل يمكن ان يتعزز بقرائن أخرى مشهودة فى الوقت الراهن، منها عودة بعض رجال مبارك وأبواقه إلى الظهور فى المجال العام والإعلامى منه بوجه أخص ومنها استعادة الداخلية لأساليبها القديمة فى التعذيب والقمع وتلفيق القضايا.
ليست خافية أهمية استجلاء هذه النقطة وحسم الموقف منها، ليس فقط للفكرة المبتسرة التى تعبر عنها، وليس فقط لأنها بمثابة قراءة خاطئة لأسباب وأهداف الثورة، ولكن أيضا لأن الكلام منسوب إلى رئيس قادم من حقنا ان نتساءل عن هوية نظامه ومقاصده. وما اذا كان سيقدم حلا لمشكلة التوريث أم سيقيم نظاما جديدا يستلهم أهداف الثورة ويسعى لتحقيقها.
ما سبق يمهد لنقطة اخرى مثيرة للالتباس والقلق فى كلام المشير السيسى، تتعلق بالموقف من الديمقراطية، ذلك أنه انتقد استدعاء صور موجودة فى ديمقراطيات غربية مستقرة منذ مئات السنين ومحاولة إسقاطها على واقعنا. وقال إن اقامة ديمقراطية حقيقية فى مصر تحتاج وقتا قد يمتد إلى عشرين عاما. كما أنه تحدث عن ثنائيات الديمقراطية والأمن القومى، والديمقراطية والفقر، والديمقراطية والإقصاء، وجاءت إشارته موحية باحتمال التعارض بين تلك الثنائيات، الأمر الذى يستلزم فى الوقت الراهن تقديم خوض المعارك ضد الفقر والإرهاب والدفاع عن الامن القومى، مع تأجيل الاستحقاقات الديمقراطية. وفى حديثه إلى رؤساء تحرير الصحف تطرق إلى حرية التعبير والنقد، وانتقد ما اعتبره تجريحا للمسئولين، قائلا انه «بدلا من التجريح يمكنك ان تهمس بما تريد فى اذن المسئول».
هذا الكلام بدوره يفتح الباب، واسعا للالتباس فى امر ينبغى ان يكون واضحا ومحسوما، ولعلى لا ابالغ اذا قلت إنه يشكك فى صدق الموقف من الديمقراطية، سواء فيما خص استحقاقاتها أو علاقتها بالفقر والأمن القومى والارهاب.
فى هذا الصدد فإننى لم أفهم المقصود بالديمقراطية الكاملة التى علينا ان ننتظر عشرين عاما لكى نبلغها، أولا لأنه لا يوجد شىء اسمه ديمقراطية كاملة الأوصاف، لأنها كتجربة بشرية لها فضائها ومفاسدها، والأولى اضعاف الثانية، ذلك اننا نتحدث عن مناخ للحرية يحميه القانون ولا يقيده، ونتحدث عن دولة تفصل بين السلطات وتديرها المؤسسات التى تحترم القانون والدستور، ونتحدث فى المساواة بين المواطنين وعن حقهم فى المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. وهذه ليست اكتشافات جديدة، ولا هى أمور غريبة على مصر. ذلك ان بعضها عرفته الخبرة السياسية المصرية فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى. ثم اننا ينبغى الا نفترض تعارضا بين الديمقراطية وبين الفقر أو ولأمن القومى أو مكافحة الارهاب. لأن السعى لاستكمال البنيان الديمقراطى يمكن ان يتم بالتوازى مع النضال على الجبهات الأخرى، ناهيك عن ان الديمقراطية يمكن ان تكون عنصرا مساعدا على تحقيق الانجاز على تلك الجهات الموازية، وثمة خبرات فى ممارسات الديمقراطيات المعاصرة يمكن الإفادة منها فى هذا الصدد.
أخيرا فإننى أقف على طول الخط ضد تجريح المسئولين أو السياسيين، لكننى أتحفظ على فكرة أن يكون البديل هو الهمس فى آذانهم، واعتبر ان احترام أدب الحوار وتقاليده هو البديل الصائب، الذى يمكن ان ترعاه المؤسسات المعنية. وأذكّر بأن القرآن انتقد النبى عليه الصلاة والسلام فى اكثر من موضع، ومن ثم كرس وخلّد فكرة النقد العلنى الذى هو من علامات العافية إذا ما تم بأصوله وأدبه ــ غدا بإذن الله لنا كلام آخر فى قراءة خطاب السيسى.