تعالت أصوات الحافلات مختلطة بضجيج المارة وكلاكسات السيارات. وقف على حافة الإفريز فى حالة تحفز. منتظرا أن تلوح فرجة بين السيارات المتلاحقة يستطيع أن يعبر من خلالها الشارع. كانت ساعته تشير إلى منتصف النهار. والشمس تركز سخونتها على الرؤوس.
ولاح له على جانب الطريق الآخر المكان الذى يقصده. لكن نهر الطريق كان متسعا واختلط فيه الحابل بالنابل، دراجات! سيارات! حافلات! ميكروباصات! عربات نقل ثقيلة! ومواكب من الناس تروح وتجىء. منهم من يعبر الطريق سالما ومنهم من ينجو بأعجوبة ومنهم من يلقى حتفه تحت عجلات السيارات.
ونظر حوله فشاهد أرتالا من البشر، كلهم يريدون عبور الطريق. وكلهم يبدو عليهم التحفز. ومر الوقت بطيئا متمهلا، وأقلقه شعور أنه سيقف إلى ما لا نهاية، وأن قدوم السيارات لن يتوقف، فاتخذ قراره بعبور الطريق. وفى اللحظة نفسها اتخذ آخرون القرار نفسه وبدأوا عبور الطريق بحذر. ومن بينهم طفلة صغيرة لا يجدر بمثلها أن تعبر الطريق وحدها. ولعله فى عيون أصحاب الشعر الأبيض صغيرا لا يجدر به عبور الطريق وحده أيضا. وأحس بحنان فطرى يدفعه إلى الصياح عليها وتحذيرها، ثم أمسك يديها الصغيرة فى عزم، وبدأ يعبر الطريق.
الخطوات الأولى كانت قليلة الخطر. إذ إنه من المعتاد أن تلزم الدراجات جانبى الطريق. وتوقف لبرهة ناظرا بإمعان. السيارات تندفع فى سرعة وكأنها تتسابق صوب غاية مجهولة. والبنت خائفة تعتصر يده بقوة. ألقى إليها نظرة حانية. شعرها الأسود متهدل على جبينها، وعيناها واسعتان تقطر كل براءة العالم، وساقاها ساقى كتكوت. ما الذى يدفع مثلها إلى عبور الطريق؟ لكن لا وقت لديه للتأمل. فليؤجله إلى بعد وصوله إلى بر الطريق الآخر فى سلام.
الحافلات مكدسة بركابها. كلهم يهدفون إلى غاية. ولكن ما غاية الذهاب والمجىء؟ ما سبب وجودنا فى هذا العالم ولأى غاية؟ بالنسبة إليه لديه سبب مقنع! هذه الطفلة الصغيرة التى منحته يديها فى كل ثقة الدنيا. وطالعها بنظرة خاطفة! لا بد أنه يتوهم وإلا فإن قامتها استطالت قليلا، وربما أخطئ فى تقدير عمرها. وشرد فى أفكاره للحظة ولكنها كانت كافية لأن تصدمه سيارة، ولكنها صدمة خفيفة لم تؤذيه.
ما زالت يده ممسكة بيد الطفلة. فلينهض بسرعة فليس لديه الوقت الكافى لترف الرقاد على الطريق. والضربة التى لا تكسرك تقويك. ومن حوله عابرو الطريق مثله يتلقون الضربات. والشمس توسطت الأفق وبدأت حرارتها تخف بالتدريج. وهذا الجزء من الطريق صار أقل ازدحاما بالسيارات وقبضة البنت على يديه أكثر اطمئنانا. ويدها نفسه صارت أكثر رقة. ونسيم الأصيل أكثر رقة. والجانب الآخر من الطريق صار على مرمى البصر. بوسعه الآن أن يترك يدها إذا شاء. ونظر إليها فأذهله ما رأى. تحولت الطفلة أثناء عبور الطريق إلى حسناء بارعة الحسن مكتملة التكوين. ولم يفكر فى تفسير ذلك بقدر ما أحس أنه بحاجة إلى امرأة. ورمقها فى لهفة وغاص قلبه حين شاهدها تنظر إليه فى إكبار وتوقير. نظرتها إلى عجوز كبير السن. ولم تكن هناك مرآة يتأمل وجهه فيها، ولكنه شاهد نفسه فى حدقات عيونها. منحنى الظهر، أشيب الشعر، منطفئ العينين، أجعد الجبين. ونظر إلى يديها الرخصتين، ونظر إلى يديه المعروقتين. وقبل أن يفهم، أو حتى يجأر بالشكوى، وجد قدميه تصطدمان بالجانب الآخر من الطريق.