هل الذين قاطعوا الانتخابات آثمون ومرتدون حقا؟ وهل الذى لم يصوت للسيسى آثم أيضا وعاصٍ لنداء الرب؟ مثل هذه الأسئلة أصبحت واردة بعد انتهاء التصويت على الانتخابات الرئاسية، حيث غدا طرحها واجبا بعدما انخرط رجال الدين فى حملة التعبئة والحشد، سواء لحث المصريين على المشاركة فى التصويت، أو لدفعهم إلى التصويت لصالح المشير عبدالفتاح السيسى. وإذا كنت قد لاحظت أننى ركزت على الأسئلة المتعلقة بالحساب فى الآخرة، فذلك لأننى اعتبرت أن اللعنات والسباب التى لاحقت هؤلاء فحقرتهم وحطت من أقدارهم صارت على كل لسان، فضلا عن أنه مقدور عليها. إذ بات مألوفا أن يوصف الواحد منهم بأنه خائن وعميل وملعون الوالدين. وهذه أخف الأوصاف التى يملك الإعلاميون التليفزيونيون وأمثالهم ذخيرة منها لا تنفد. لكن ذلك كله فى كفة وتنافس رجال الدين معهم فى كفة أخرى. فالإعلاميون والضيوف الذين يتخيرونهم كى يؤدوا دور«الكورس» الذين يرددون مفردات الهجاء والسباب، هؤلاء يمثلون أنفسهم فى نهاية المطاف أو يمثلون شبكات المصالح التى قرأنا على لسان أحدهم أنها دفعت 12 مليون جنيه فى حملة الدعاية للسيسى. أما رجال الدين الذين شاركوا فى حملة الترهيب فإنهم لا يمثلون أنفسهم، ولكنهم يمثلون مؤسسات مقدَّرة تنسب نفسها إلى الرسالات السماوية، ويفترض أنهم يتمتعون بدرجة من الورع تجعلهم يخشون الله، الأمر الذى يحصنهم ضد مداهنة السلطان أو التزلف له.
خلال الأسابيع الأخيرة شاهدنا عروضا كثيرة من جانب هؤلاء، الذين وظفوا الأديان فى اللعبة السياسية، فابتذلوها ولم يجرسوها، وتطوعوا للانضمام إلى جوقة المهللين، فتحولوا إلى مصفقين لا مبشرين. واصطفوا إلى جانب حملة المباخر معرضين عن دور حملة الرسالات. وهو ما انتقدته فى السابق، ولا أمل من انتقاده فى كل مناسبة.
لقد تابعنا جدلا عقيما بين من أفتى بحرمة المشاركة فى التصويت على الانتخابات وبين من هبوا يدافعون عن المشاركة فى العملية محذرين من غضب الله الذى ينزل بعباده «المارقين» الذين قاطعوا والعصاة الذين لم يصوتوا للمشير السيسى، وهو ما لابد أن يجد بعض المتدينين الذين قد يكتشفون أنهم صاروا آثمين، سواء شاركوا وآثمين إذا لم يشاركوا.
لا يغيب عن البال فى هذا الصدد أن توظيف الدين فى المعركة السياسية ما كان له أن يأخذ ذلك المنحى إلا بعدما شجعته السلطة بصورة أو أخرى، وانفتحت أمامه المنابر الإعلامية التى تصورت أنها باستدعاء أهل الأديان تسهم فى الحشد والنصرة، وبذلك تكتسب مباركة السلطة ورضاها. وفى زماننا يكثر ترزية الفتاوى الذين هم أشد مراسا من ترزية القوانين، لأن أدوات الأولين التى تستند إلى المرجعية الدينية أكثر مضاء وأبعد أثرا.
لا أريد أن أخوض فى جدل الدين والسياسة، لأن التجربة أثبتت أن الفصل بين الاثنين يكون مطلوبا فقط فى حالة السياسة المعارضة، أما تلك الموافقة فهى مرحب بها ومطلوبة، من هذا الباب تابعنا خلال الأيام الأخيرة سيل الفتاوى التى كان أغلبها داعيا إلى الإقبال على التصويت، وحذرت المقاطعين من غضب الله. وبعضها أعلن انحيازه إلى المشير السيسى «حبيب الله» بعدما أضاءت وجهه آثار السجود التى رصعت جبهته، فى حين ان حمدين صباحى لم ينل تلك المرتبة.
الذين أفتوا بحرمة التصويت قالوا إنه تأييد لمنكر تمثل فى الانقلاب على الحاكم الشرعى، والذين قالوا بضرورة التصويت استدعوا الحديث النبوى الذى اعتبر من مات وليست فى عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية، كما أنهم استدعوا النص القرآنى الذى يحذر المؤمنين من كتمان الشهادة.
ورغم أننى لست من أهل الفقه فإن معلوماتى المتواضعة تسمح لى برفض الرأيين لأننا بصدد اجتهاد سياسى لا يخضع بالضرورة لمعايير الحل والحرمة التى تتطلب نصا أو قياسا، ولكنه محكوم بزاوية النظر للحديث. فمن اقتنع بأن المصلحة فى المقاطعة فله أجره ومن وجد أن المصلحة فى المشاركة فله أيضا أجره. وهذا أمر لا علاقة له بالبيعة، كما أن الامتناع عن التصويت شهادة سلبية والإقدام على التصويت قبولا أو رفضا من قبيل الشهادة الايجابية.
لست متأكدا من أن حث الأقباط على التصويت للسيسى استجابة لدعوة يسوع صادرة عن الكنيسة، لكن الثابت أن الدعوة أطلقت عامة دون إشارة إلى مصدرها، وقد قرأت تعليقا لأحد المغردين الذين تلقوا الرسالة على هاتفه المحمول، تساءل فيه: كيف عرف يسوع رقم هاتفى؟ أدرى أن الأنبا تواضروس بطريرك الأقباط كان ضمن الذين شاركوا فى مشهد الإعلان عن عزل الدكتور محمد مرسى، وكان شيخ الأزهر من بين الحضور وكذلك رئيس مجلس القضاء الأعلى، وكان ذلك إعلانا عن مساندتهم للتغيير السياسى الذى تم. إلا أننى أزعم أنهم لو احتفظوا بمسافة إزاء الحدث ونأوا بقاماتهم عن أن توظف فى الصراع، لكان ذلك أحفظ لمكانتهم وأوفى فى التعبير عن استقلالهم.
ليس عندى حل لمشكلة الذين اتهمتهم الفتاوى بالجاهلية والعصيان أو بخيانة الأمانة وكتمان الشهادة. لأن السؤال الأهم الذى تطرحه الممارسات التى أتحدث عنها هو: هل المواقف التى عبر عنها رجال الدين هؤلاء تخدم الدين أم تخدم السلطة، وهل ابتغوا فيما فعلوه وجه الله أم رضى السلطان؟، وهل كانوا فى ذلك أهل دين أم لاعبين فى حلبة السياسة؟