وقف بث حلقات «البرنامج» ليس فقط قرارا قمعيا بحق مقدمه وفريقه، وليس فقط إنذارا لكل من يجرؤ على نقد الأوضاع العامة فى مصر، لكنه أيضا كاشف عن أمر آخر بالغ الأهمية. ذلك أن المشكلة لا تكمن فقط فى أن إحدى القنوات منعته، وإنما المشكلة الأكبر أنه ما من قناة أخرى فى مصر باتت مستعدة لاحتماله. وإذا كنا نتحدث عن نحو عشرين قناة تابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون الحكومى وعشرات القنوات التابعة للقطاع الخاص. فلابد أن يثير دهشتنا ألا نجد بين ذلك الكم الكبير من القنوات واحدة تتمتع باستقلال حقيقى يجعلها قادرة على احتمال برنامج ينتقد الأوضاع العامة والشخصيات العامة بجرأة وحرية.
قال لى أحد معدى البرامج فى التليفزيون الحكومى إن تعليمات وزيرة الإعلام صريحة فى منع ظهور أى ناقد لسياسة الدولة على شاشة تليفزيون الدولة. إذ لا بأس من الحديث بحرية عن أزمة المرور أو الغلاء أو انقطاع التيار الكهربائى وغير من الأمور المعيشية، أما التطرق إلى السياسات العليا فلا مكان له فى القنوات الرسمية. ورغم أن ذلك أمر مستهجن من وجهة النظر الديمقراطية إلا أنه مفهوم فى بلدان العام الثالث، التى يتعذر مقارنتها ومساواتها بالديمقراطية الحقيقية. باعتبار أن التليفزيون الرسمى فى أغلب تلك الأقطار هو ملك الحكومة وبوقها الذى يخاطب الرعية. وهذه الأخيرة مطلوب منها أن تستقبل فقط. لأن الإرسال مقصور على الحكومة دون غيرها.
بقية القصة لا تخلو من طرافة، لأن المعد المذكور استغرب هو وزملاؤه تعليمات الوزيرة. وحين ناقشوا الأمر فيما بينهم فإنهم توافقوا على أن الأمر بسيط ولن يحدث فرقا ذا بال، لأن المشاهدين انصرفوا عن القنوات الحكومية التى باتت تخاطب السلطة ولم يعد يشاهدها أحد. من ثم فإن تعليمات الوزيرة تؤمن موقفها فى حقيقة الأمر ولا علاقة لها بالتأثيرات المفترضة على الرأى العام.
إذا فهمنا موقف القنوات الحكومية، فإن سيلا من الأسئلة يتداعى فى محاولة فهم موقف القنوات الخاصة. التى ما برحت تتحدث عن استقلالها. وتتضاعف تلك الأسئلة إذا تذكرنا أن تلك القنوات مارست درجة عالية من الشجاعة والجرأة فى نقد النظام السابق، لكنها تخلت عن كل ذلك فى ظل الوضع المستجد. وحالة برنامج باسم يوسف كاشفة بقوة لتلك المقابلة. ذلك أنه مارس حريته بلا سقف فى ظل النظام السابق، إلا أنه تعرض للقصف والقمع بعد أول حلقة قدمها فى ظل النظام الجديد. ووضع البرنامج لم يكن استثنائيا لأن الجميع أخذوا راحتهم آنذاك إلى أبعد مدى. والجميع التزموا الصمت وتخلوا عن شجاعة النقد وقسوته منذ عزل الرئيس السابق.
لا يقولن أحد أن قرار منع البرنامج سعودى وليس مصريا، رغم أننى لا أشك فى أن القيادة السعودية تحمست له إن لم تكن قد سعت إليه، لأن السقف السعودى لا يحتمل مثل تلك الممارسات. لأسباب داخلية بحتة. وهو ما ليس لنا فيه كلام رغم تحفظنا عليه، لأنه شأن يهم الشعب السعودى بالدرجة الأولى. حتى إذا جاز لنا أن نقول إن القيادة السعودية منعت القناة السعودية من بث البرنامج، فإننا لا نستطيع أن نقول إن جميع القنوات المصرية الخاصة الأخرى لم ترحب بالبرنامج استجابة للضغوط السعودية أيضا. إذ إنه فى هذه الحالة سيكون عذرا أشد قبحا من الذنب.
هذه الخلفية تسلط الضوء على حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهى أن القنوات الخاصة ليست بالبراءة التى قد تخطر على البال. ولكن لها أجندتها الخاصة التى تتحكم فى أدائها وضيوفها ورسالتها. وهو ما يدعونا إلى تحرى شخوص الممولين وعلاقاتهم بمختلف الأطراف المشاركة فى حلبة السياسة، سواء كانت تلك الأطراف لها مصالحها الخاصة أم أن لها ارتباطاتها بمراكز القوى فى داخل مصر وخارجها. وذلك جانب تتزاحم فيه الأسئلة ويشتد فيه اللغط وتتعدد التأويلات والتكهنات. عند الحد الأدنى فالكلام كثير والأسئلة مثارة حول حفاوة بعض تلك القنوات بوجوه وشبكات مصالح النظام السابق وحول التمويل الخليجى لقنوات أخرى تخدم التحالفات الاقليمية الجديدة ـ كما أنها مثارة أيضا وبوجه أخص حول علاقة تلك القنوات بالدولة العميقة فى مصر.
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الليبرالية الجديدة التى تحتفى بهياكل الديمقراطية وأشكالها فى حين تهدر وظائفها أو تعطلها. هى ذاتها التى تنحاز إلى حرية السوق والتجارة، وتتمسك بتأميم السياسة والإعلام. والرسائل التى نتلقاها تباعا حتى الآن توحى بأننا ماضون على ذلك الدرب، الذى أخشى أن يعيد إلينا الماضى ولا يصلنا بالمستقبل.