مجموعة سعودي القانونية

إبراهيم عيسى يكتب | يوم كنت أول الثانوية العامة

ابراهيم-عيسى

كنت أول اسم فى لجنة امتحان الثانوية العامة، فكانت جلستى فى آخر مقعد الملاصق للحائط، أمامى صاحبى الذى يحمل نفس اسمى طبعًا، ولكنه لم يكن يومًا ما من الأوائل أو المتفوقين. عندما نتسلَّم ورقة الأسئلة أبدأ فى الإجابة فورًا، بينما هو يمضى متأمِّلًا الحياة منتظرًا انتهائى من الإجابة حتى أروق وبراحتى خالص، بل وأبدأ التململ من الملل، حينها أنظر ناحيته فأجده ملتفتًا إلىَّ بجزء من رأسه، ساندًا على ظهره ويبدأ فى انتظار أن أغشّشه الإجابة عن أى أسئلة، فهو لا يشترط أى طلبات، فقط ما يقيم الأود وينجح به فى المادة، فهو يريد الالتحاق بكلية الحقوق، ويكفيه مجموع النجاح، ولا يشغل باله بأكثر من هذا. لم يكن يدرك وقتها أن راحة البال الفلسفية التى يعيشها سببها أنه ليس محمَّلًا بأى توقعات وهو يعرف أن جلسته فى اللجنة ستكون أمامى، فأدرك أنه لا يحتاج إلى أن يوتِّر نفسه أو يقلق أهله، وكان كل ما يشغله هو بقاء صحوبيتنا وصحّتى فى أحسن حال.

منذ أول يوم وهو امتحان اللغة العربية بطبيعة الحال كنا قد توصَّلنا إلى هذه الصيغة، أن يعيش هو فى الساعة الأولى من الامتحان مهراجا هنديًّا يلعب اليوجا ويمارس النيرفانا، بينما أنشغل أنا فى الإجابة، وحين أنتهى يبدأ فى التحوُّل إلى أُذنَين كبيرتين تسمعان همسى بالإجابات، ولا مانع طبعًا فى انفجار ضحك مكتوم حين لا يستوعب بعض الكلمات أو الإجابات التى يبدو معها أنه لم يفتح كتابًا للمذاكرة أصلًا. كنا نخرج من الامتحان وهو راضٍ مطمئن وأنا واثق مغرور، يقول لزملائنا إنه لا يحب أن يراجع إجاباته بعد الامتحان كى يركِّز فى القادم، بينما أنا أدقِّق فى الإجابات مع المتفوقين أمثالى ومع أساتذتى، حتى أتأكد هل سأحصل على الدرجة النهائية أم سأخسر درجة أو نصف درجة.

فى يوم امتحان علم النفس والمنطق وقد انتهيت من الإجابة وبدأت العملية الروتينية فى إملاء الإجابات لزميلى، فإذ به عند إجابة سؤال يلتفت بوجهه كاملًا مغامرًا بتأنيب الملاحظ، ويقول لى مستغربًا إن هذه الإجابة خاطئة. ركبنى ستين عفريت مع حالة استنكار كاملة، ما الذى تقوله؟

قال لى: يا إبراهيم دى غلط، وبدأ يشرح لى أن هذا هو الشىء الوحيد الذى يعرفه فى هذه المادة، وأن العبارة التى أجبت عنها بعلامة «صح» هى عبارة خاطئة، ولازم نعمل قدامها علامة «غلط»، رفضت بكل إباء وشمم هذا الكلام الفارغ. وقلت له: بل أنا الصح يا إبراهيم (لا تنسَ أننا إحنا الاثنين إبراهيم)، وبينما بدت نظرتى واضحة إنه ماتنساش نفسك، كان متأكدًا جدًّا من إجابته، لكنه أيضًا كان متأكدًا من تفوّقى ومستندًا إلى عقلى فى الامتحانات كلها، كنت أقول لنفسى لا يمكن يعرف صاحبى أكتر منى، ولا يمكن يبقى فاهمًا أكثر منِّى. وكان هو يؤكِّد لنفسه أن صاحبه متفوّق وفاهم ومذاكر ومنجَّحنى كل هذه الامتحانات، فلا يمكن يكون على خطأ. أخيرًا قرر أن يوافقنى ويكتب ما أمليته عليه لا ما يريد هو.

طبعًا بعدما خرجنا من الامتحان تأكَّدت أنه هو الصح وأن إجابتى خاطئة، لكنه سمع كلامى لأنه يثق فىّ، ولم أسمع كلامه لأننى أثق فى تفوّقى. على قدر ما كان يضحك جدًّا ولا فرقت معاه حاجة، على قدر ما أوجعنى أننى أنا وهو الطالبان الوحيدان تقريبًا فى الثانوية العامة اللذان لم يعرفا الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال.

طلعت الأول فى الثانوية على محافظة المنوفية، والسابع عشر على الجمهورية، ودخل صاحبى الحقوق طبعًا، لكننى من يومها تعلَّمت أن ليس بالضرورة يملك المتفوقون الإجابة الصحيحة دائمًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *