لا داعى للقلق، اقرأ : جملة شهيرة ترغب بها دور النشر العالمية الناس فى القراءة وشراء الكتب.
قرأت خلال الأيام الماضية بعض السير الذاتية لكتاب ومثقفين يساريين وليبراليين قاوموا الفاشية فى ألمانيا وإيطاليا فى النصف الأول من القرن العشرين، ولصحفيين وأكاديميين وقفوا فى وجه المكارثية الأمريكية فى أربعينيات وخمسينيات نفس القرن، ولفنانين وموسيقيين ورسامين وشعراء وأدباء رفضوا الخضوع للاستبداد الذى واصل تجديد دمائه بعد الحرب العالمية الثانية فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية غير مكترث بانقضاء الاستعمار التقليدى ومتحديا بزوغ عصر التحرر الوطنى واستقرار حق الشعوب فى تقرير المصير وحقوق الإنسان وحرياته كمنظومة قيمية عالمية وموظفا تكالب القوى الكبرى على النفوذ / الأسواق / الموارد الطبيعية / مواطئ القدم الإستراتيجية / شبكات الاستغلال العالمية.
يجمع سيرهم الذاتية، وهى فى المجمل تغيب عنها ادعاءات البطولة والنضال والكفاح وتعترف بالضعف الإنسانى وبلحظات الذل والتراجع والانتهازية والبحث عن الفرص الفردية للتعايش مع الفاشية / المكارثية / الاستبداد، توثيقها للمصداقية الأخلاقية والمجتمعية والسياسية لانسحاب البعض إلى الصوامع الخاصة حين تشتد وطأة القمع وتضيق سبل التعبير الحر والآمن عن الرأى وحين يرفض ذاتيا الارتحال بعيدا عن الوطن وتمتنع السلطة الحاكمة عن تنفيذه بالقوة الجبرية كقدر محتوم وحين يصبح الرهان الوحيد الممكن هو الرهان على عودة الناس إلى البحث الجماعى عن الحق والحرية وتفضيلهما بوعى مهما زين لهم غير ذلك ومهما طال الوقت.
حقائق.. حقائق.. حقائق / عبارة وردت بقوة خطابية وبطرقة على منضدة اجتماعات على لسان رئيس تحرير مجلة أسبوعية ألمانية فى إعلان تليفزيونى شهير يعود إلى نهاية التسعينيات.
وسر شهرة العبارة ورئيس التحرير والإعلان التليفزيونى ارتبط بإدراك الرأى العام الألمانى للتناقض الفاضح آنذاك بين الإشارة إلى الحقائق (ومكوناتها المتمثلة فى المعلومات والعرض الموضوعى وقبول الاختلاف والرأى الآخر) وبين الصورة الذهنية الراسخة عن المجلة الأسبوعية المعنية والتى كانت تضعها فى خانة المطبوعات الصفراء التى تعتمد على نشر الأكاذيب / الشائعات / الفضائح / المبالغات / الأخبار المختلقة لتحقيق مبيعات مرتفعة. هزل رئيس التحرير ـ وهو يظهر فى الإعلان فى مشهدين، مشهد وهو يقول العبارة المعنية ويطرق بيده على منضدة الاجتماعات ومشهد آخر وهو يأخذ فى صمت وضعية «المفكر» بارتكاز خده الأيمن على أصابع يده اليمنى وبتوجيه عينيه إلى الأمام وكأنه ملك بمفرده ليس فقط الحقيقة بل أيضا رجاحة العقل والنظر، الذى ادعى دون مصداقية اعتماد مطبوعته الصفراء على الحقائق قابلة الرأى العام الألمانى بهزل مماثل حيث تحولت عبارة «حقائق.. حقائق.. حقائق» فى التسعينيات إلى «عبارة كودية» متعارف عليها للتدليل على غياب الحقيقة والمعلومة وذيوع الأكاذيب والشائعات بشأن بعض قضايا السياسة والمجتمع فى ألمانيا (وارتبط أشهرها آنذاك بالتمويلات السرية للأحزاب السياسية وبتأثير شبكات المصالح الاقتصادية والمالية والإعلامية على صناعة القرار الحكومى والبرلمانى).
ومع أن الكثير من شعوب الأرض لديها انطباع مسبق عن «ثقل دم» الألمان، إلا أننا اليوم نحتاج لهزل مشابه لهزلهم فى نهاية التسعينيات ونحن نتابع طوعا أو قسرا احتكار الحديث باسم الحقيقة والفكر الثاقب (بذات عبارات الإعلان الألمانى وبمشاهد مشابهة لمشاهده) لمن لم يفعلوا يوما إلا خدمة السلطان وتخوين معارضيه بترويج الإفك والشائعات ومن لم يقرأ أو يسمع لهم يوما كلمة وراءها معلومة أو حقيقة أو فكرة.