معتز بالله عبدالفتاح | عاجل إلى «السيسى»: دروس من دول نجحت
كتبت من قبلُ أنه، وفقاً للبنك الدولى، هناك 15 دولة «تخرجت» من «مدرسة التخلف» إلى «مدرسة التنمية» خلال الفترة من 1965 إلى 2005؛ لأنها تبنت استراتيجيات متشابهة لحد بعيد فى كيفية تحولها من دول متخلفة إلى دول تنموية، ثم جاء وراءها عدد آخر من الدول التى تعلمت منها وأضافت إلى استراتيجياتها إبداعات أخرى مثار دراسة وتقدير، وعلى رأسها تركيا والصين والهند والبرازيل. وهناك نقاط تشابه عديدة يمكن تفصيل بعضها باختصار كالتالى:
أولاً: وجود فريق تخطيط استراتيجى لبرامج التنمية فى الدولة. فريق العمل هذا يتكون من عدد محدود من الأشخاص، تفاوت من دولة لأخرى؛ بحيث كان فقط 8 خبراء فى بعض الدول ووصل إلى 24 خبيراً فى دول أخرى. المهم أن هؤلاء يتمتعون بخصائص علمية وتجارب حياتية تجعلهم العقل المفكر للدولة فى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتكون عضويتهم فى هذا الفريق هى العمل الوحيد الذى يعملونه، فيفكرون طوال اليوم، كل أيام الأسبوع، فى كيفية النهوض بأوضاع الوطن. وهم بذلك أطراف مباشرون فى عملية تنموية ذات أطراف خمسة: رئيس الدولة أو الحكومة، الوزارات والجهاز البيروقراطى، الشركات والمؤسسات الدولية، القطاع الخاص، النقابات العمالية.
كل واحد من نماذج التنمية المشار إليها ابتكر فريق عمل له وظيفة محددة ومساحة معينة بدقة للدور الذى يمكن أن يقوم به، هذا الفريق له أسماء متعددة، وللتبسيط سنسميه «فريق التخطيط الاستراتيجى»، الذى كان اسمه فى ماليزيا مثلاً «وحدة التخطيط الاقتصادى»، التى بدأت فى الستينات بعدد بلغ 15 شخصاً، نصفهم كانوا من العقول الماليزية المهاجرة. والرأس الأخضر اعتمدت بدءاً من منتصف السبعينات على ثلاثة عقول اقتصادية جبارة حول رئيس الوزراء، الذى كان وزير التخطيط والضمان الاجتماعى أيضاً. وتايوان ابتكرت مجلساً تحت اسم مجلس المعونة الأمريكية، الذى كان يضم عدداً من الخبراء التايوانيين والأمريكيين، وكان هذا المجلس على اتصال مباشر برئيس الجمهورية من خلال اجتماعات شبه أسبوعية، وشيلى اعتمدت على مجلس أُطلق عليه إعلامياً اسم «فريق شيكاغو» نسبة إلى حصولهم على درجاتهم العلمية من جامعة شيكاغو العريقة واعتقادهم فى الإطار الفكرى الذى تقدمه.
بل إن جورجيا، التى احتلت قمة الإصلاحيين فى تقرير Doing Business لعام 2007، اعتمدت على فكرة مشابهة. وقد أشار فريق التقرير إلى أن «وزارة الإصلاح فى جورجيا لديها نحو 20 شخصاً يقومون بمهام التخطيط الاقتصادى والاجتماعى فى هذه الدولة، لو أن لنا أن نحدد سبباً واحداً فقط لنجاح جورجيا، فهو وضع أفضل العقول فى مراكز صنع الأفكار والقرار».
ثانياً: هذا الفريق عليه مهمة تصميم استراتيجيات التنمية على الورق. والمقصود بالورق: كتابة خطة محكمة تناقش بكل شفافية الخطوات الإجرائية لتحقيق التنمية. ولأنهم لن يستطيعوا أن يحلوا كل المشكلات الاقتصادية بالتوازى فعليهم اختيار المجالات الأَولى بالاهتمام على أساس معيارين، أولاً: تكون للدولة فيها مزية تنافسية كبيرة، بحيث تستطيع عملياً أن تبرز فيها بمجهود أقل من أى مجال آخر، والمعيار الثانى: أن يكون هذا المجال استراتيجياً وقادراً على أن يكون قاطرة النمو التى تجر وراءها بقية القطار الاقتصادى الاجتماعى، أى مجال له تأثير إيجابى على مجالات اقتصادية واجتماعية أخرى، أى يكون لها «spill over effect» كما يقال بالإنجليزية؛ ففى حالة تايوان كانت هناك خطة ذات 19 نقطة لإصلاح القطاعين المالى والإنتاجى، وفى ماليزيا تبنت الدولة «السياسة الاقتصادية الجديدة» منذ عام 1971 لكنها طبقتها بفعالية أكثر مع تولى مهاتير محمد السلطة فى عام 1981.
ثالثاً: قيادة التفاوض مع القطاع الخاص: فهذه الدول لم تنطلق من افتراض أن القطاع العام قادر، منفرداً، على قيادة النمو الاقتصادى وبالتالى لا بد من أن تساعد الدولة القطاع الخاص حتى يزدهر ويكون قادراً على التنافس مع العالم الخارجى.
فمثلاً اشتهرت عبارة حكم «نخبة اللحوم» أى «beefocracy» فى بتسوانا، فى إشارة لدعم الدولة لرجال الأعمال الذين حولوا عملية تربية العجول والأبقار إلى صناعة وطنية ضخمة يعمل بها آلاف من المواطنين. وقدمت موريشيوس نموذجاً آخر لعلاقة بنّاءة بين الجهاز البيروقراطى للدولة والقطاع الخاص لدعم الصادرات الغذائية المصنعة وعلى رأسها منتجات السكر. وهذه العلاقة بين فريق العمل التخطيطى والقطاع الخاص عبَّر عنها بعض الباحثين بعبارة «الاستقلال الاندماجى» (embedded autonomy) لفريق التخطيط؛ لأنه فريق غير «مسيس»، أى لا ينتمى لحزب ولا يعبر عن رؤية حزبية ضيقة، كما أنه ليس حكومياً؛ حيث لا يوجد فيه أو بينه وزراء أو مسئولون حكوميون. وعلى هذا الأساس تكون هناك مسافة محسوبة بدقة بين هذا الفريق والقطاع الخاص، كما توجد مسافة أخرى بينه وبين الحكومة.
رابعاً: التنسيق مع القيادة الحكومية: فكل هذا التنسيق مع الجهات الخارجية والداخلية ليس له قيمة إن لم يحظَ هذا الفريق بثقة القيادة السياسية للدولة وباستعدادها للمخاطرة المحسوبة من خلال قرارات ربما تكون غير شعبية؛ فرئيس بتسوانا، مثلاً، تخلى عن مصالح القبيلة التى ينتمى إليها لصالح الوطن حينما تبنى قانوناً يكسر احتكار قبيلته لعملية حفر المناجم فى أواخر الستينات؛ فالتزام هذه القيادات بالتنمية كالتزامها بالأمن. ومن أهم مجالات التنسيق مع القيادة الحكومية: وضع خطط إعادة توزيع عوائد الاستثمار على فئات المجتمع الأخرى فى صورة تعليم وعلاج وخدمات عامة.
خامساً: التفاوض مع المؤسسات والشركات الدولية: بحكم الخبرات التى يتمتع بها أعضاء هذا الفريق، بحكم دراستهم وعملهم فى الخارج؛ فقد كانوا الأقدر على التفاوض مع مؤسسات التمويل الدولية من أجل المنح والقروض، كما كانوا الأقدر كذلك على التفاوض مع الشركات متعددة الجنسيات. وبما أن كل هذه الدول قد تبنت استراتيجية دعم الصادرات (وليس الإحلال محل الواردات) فالتواصل مع الشركات الدولية مسألة جوهرية للغاية.
سادساً: تعبئة وتخصيص الموارد: من المهام المتشابهة التى قام عليها أعضاء هذا الفريق فى الدول التنموية السابقة: مهمة توجيه موارد المجتمع نحو مجالات بعينها لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. فقد كانت وحدة التخطيط الاقتصادى فى ماليزيا هى المسئولة عن توجيه نحو ثلث ميزانية الدولة بالتنسيق التام مع رئيس الوزراء. وقد كانت ميزانية الدولة فى كوريا الجنوبية تقدَّم ابتداء من فريق التخطيط الاستراتيجى ثم تناقَش على مستوى مجلس الوزراء لاحقاً حتى تضيف بُعدَى النمو والتنمية على قمة أولويات الحكومة.
سابعاً: دفع الجهاز الإدارى والبيروقراطى للاستجابة لمتطلبات التنمية؛ فالجهاز الإدارى والبيروقراطى هو الأقل استعداداً للتغير والتكيف مع معطيات سوق عالمية شديدة التنافسية والسرعة. ولو تُرك الأمر للبيروقراطيين وحدهم، لما نجحت أى من النماذج السابقة. والمعضلة الأساسية فى كثير من الدول، ومن بينها مصر، أن الوزير المسئول يسعى للدفاع عن جهازه البيروقراطى، لأنه مسئول عنه سياسياً وأمام الرأى العام، بما يعطى للبيروقراطيين مبرراً للتمسك المبالَغ فيه باللوائح والإرشادات دون النظر إلى نتائج قراراتهم.
وقصارى القول: إن هذه الدول التنموية اعتبرت نفسها فى حالة حرب حقيقية فى مواجهة التخلف والفقر، ومن هنا استعانت بأفضل عقولها ووضعت لهم أدواراً ومهامَّ مرسومة بدقة حتى يكونوا العقل المفكر لتجاربهم التنموية.