فهمى هويدى يكتب | فصل فى التغليط والتجريح
أتحدى المصدر المطلع الذى أفتى لجريدة «الشروق» بأنه تم انجاز أكثر من 95٪ من المشكلات العالقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ان يثبت صحة ادعائه. وأستغرب تلك الجرأة على المبالغة والتغليط فى المعلومات التى وردت على لسان المصدر المذكور، بقدر استغرابى للغة التى استخدمت فى البيان خصوصا إذا صح ما قيل لى من انه صادر عن وزارة الخارجية، وهى التى أعرف أن لها خبرة طويلة فى الرصانة وحسن التعبير، بحيث يدهش المرء حين يجد أن بيانها فى مستوى «كلام الجرايد» ودون مستوى لغة الدبلوماسيين العفيفة والراقية.
بيان المصدر الذى وصف بأنه «مطلع» جاء على خلفية ما نشرته فى هذا المكان يوم الأحد الماضى (10/8) وانتقدت فيه بيانا أصدرته وزارة الخارجية عن المحادثات التى ترعاها مصر بين وفد منظمة التحرير الفلسطينية وبين الوفد الإسرائيلى بخصوص العدوان على غزة. وانصب نقدى على ضعف لغة البيان الذى حصر الدور المصرى فى حدود تقريب النظر بين الطرفين ــ كما ورد فى نصه ــ فيما بدا انه مساواة بين القاتل والقتيل، كما أشرت إلى «أن البيان تحدث عن انه تم الاتفاق على الغالبية العظمى من المسائل التى تهم الفلسطينيين وان هناك نقاطا محددة للغاية لم تحسم بعد». وقلت ان هذه معلومة مغلوطة وغير صحيحة، لان الوفد الفلسطينى يعتبر ان المباحثات لم تسفر عن أى اتفاق على أى نقطة مهمَّة فى الأوراق المعروضة، وقد فوجئ بعضهم بما ذكره بيان الخارجية بهذا الخصوص واستغربوه.
فى نفس يوم نشر العامود الذى كتبته صدر البيان الأخير الذى نسب إلى المصدر المطلع، وذكرت فيه حكاية انجاز 95٪ من المشكلات العالقة، وقد علق أحد أعضاء الوفد الفلسطينى المفاوض على البيان بأنه ليس فيه جملة واحدة صحيحة، وأضاف قائلا انه إذا صح أنه تم انجاز 95٪ من المشكلات العالقة لانتهى الأمر ولعادت الوفود إلى قواعدها مطمئنة ومستريحة.
أهم ما استوقفنى فى البيان المنشور يوم الاثنين 11/8 ثلاثة أمور هى: نفى حياد الموقف المصرى فى المباحثات ــ عرض ما وصف بأنه «انجاز» حققته اجتماعات القاهرة ــ تجريح الموقف الناقد للسياسات التى اتبعت فى التعامل مع الأزمة. ولى فى كل نقطة رد وتعليق أوجزه فيما يلى:
• فى النقطة الأولى نفى البيان فكرة حياد الموقف المصرى وذكر أن مصر ليست وسيطا بالتعبير المعهود. وهو موقف نتمناه حقا ولكن الحاصل ان بيانات الخارجية ذاتها هى نقضته وأوحت لنا بعكسه. فهى التى دعت من البداية إلى «وقف العنف المتبادل». وتحدثت عن الأعمال العدائية التى يقوم بها الطرفان. وهى التى انتقدت استئناف الأعمال العسكرية ودعت إلى عدم استهداف المدنيين. ثم ان بيانها الأخير هو الذى حصر الدور المصرى فى حدود تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وهذا الذى أوردته عبارات جاءت فى بيانات الخارجية المصرية، التى خلت من أية إشارة إلى إدانة العدوان وجرائم الحرب التى ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين. وهو ما كان ولايزال محل حفاوة من جانب حكومة إسرائيل وإعلامها، الذى لم يتحدث عن حياد مصر فقط، ولكنه دأب على الحفاوة بما اعتبره تحالفا عربيا إسرائيليا ضد المقاومة فى غزة. بالتالى فما قلته لم يكن ادعاء أو افتئاتا ولكنه تقرير لحقيقة أبرزتها بيانات الخارجية المصرية، وسجلت به موقفا ضعيفا ومحزنا بدا متخلفا كثيرا عن موقف أغلب دول أمريكا اللاتينية.
• فيما خص «الانجاز» الذى تحدث عنه البيان المذكور. فإننى أزعم ان ما أورده البيان جاء مغلوطا ومجافيا للحقيقة. ذلك اننى أفهم الانجاز باعتباره اتفاقا محدد المعالم توصل إليه المفاوضون، ووضعوا توقيعهم عليه فى النهاية. وذلك لم يحدث فى أى نقطة. وكل ما حدث حتى الآن هو كلام شفوى مسكون بالغموض والمراوغة. وليس صحيحا ان الأمور العالقة تتمثل فى مطالبة الفلسطينيين بالتشغيل الفورى للمطار والميناء فى غزة والإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الذين تحتجزهم إسرائيل. ولعلم المصدر الذى زعم أنه مطلع فان الجانب الفلسطينى لم يطلب التشغيل الفورى للمطار والميناء إنما طالب فقط بالإقرار بحق السلطة الفلسطينية فى تشغيلهما، وهى العملية التى تحتاج إلى سنتين لتنفيذها. كما ان إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى لم يناقش ولكن إسرائىل رفضت مطلب إطلاق سراح الفلسطينيين الذين احتجزتهم بعد قصة مقتل المستوطنين الثلاثة، بمن فى ذلك الذين أعيد اعتقالهم بعد اطلاقهم فى صفقة شاليط. ويستمر التغليط فى الادعاء بأن إسرائىل وافقت على زيادة مساحة الصيد فى غزة من ثلاثة أميال إلى ستة، لان اتفاق أوسلو حدد تلك المساحة بـ12 ميلا بحرية، ولكن إسرائيل قلصتها إلى ثلاثة أميال فقط، فكيف يوصف تحريك المساحة من ثلاثة إلى ستة أميال بأنه «انجاز». أما حكاية موافقة إسرائيل على تحويل الأموال إلى قطاع غزة، فانها لا تعد بدورها انجازا، لان الموافقة تمت أصلا من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، ولم يكن لإسرائيل خيار سوى الموافقة والإقرار.
• فى النقطة الثالثة لاحظت أن البيان انتقل من موقف الإيضاح والدفاع إلى موقف الهجوم والغمز الذى لم يخل من وصلة ردح لا تليق بلغة الخطاب الدبلوماسى أو بأدب الحوار والمناقشة. ذلك أنه بعد أن ذكر أن «هذا ليس وقت اللوم والحساب مع حركة حماس»، فانه أطلق سهام الذم والتجريح ليس فقط لحماس التى اتهمها بالسعى لإحراج الموقف المصرى، ولكن لكل من انتقد المواقف التى عبرت عنها بيانات الخارجية. إذ اعتبر ذلك النقد من قبيل التزييف و«التضليل والكذب الإخوانى». إلى غير ذلك من إشارات التجريح الخارجة عن الموضوع، والتى أزعم أن مجرد إيرادها يفضح مستوى هبوط الطرف الذى أطلقها، ويسىء خصوصا إذا كان دبلوماسيا. ناهيك عن اننى لا أجيد المشاركة فى ذلك المستوى من التراشق. وأترك للقارئ ان يحكم عليه ويحدد موقفه منه.