كان قدومها نحوى يؤذن بكل ما تقدَّم من حُبِّى ومَا تأخَّر، يمكن الزعم أنها غسلت ونظَّفت بنسائم هوائها الداخلة إلى مائدتى كل جروحى الحزينة، وبانت ابتسامة وهى تضغط بمرفقها على حافة المائدة وتطلب قهوة سادة وتعيد بأصابعها خصلات شعرها للخلف وتضبط نظارتها للاستقرار على أنفها، بانت تمامًا كأنها مُرسلة «لكن الله لم يخلق أنبياءً من النساء.. ولا رُسلاً»، فى هذا التوقيت كنت أرانى أعبر برزخًا وأمر على بيوت عالية فى شارع، ثم أرفع رأسى فأشهد لافتة قماشية بيضاء معلَّقة بين شرفتين متقابلتين، ثُمَّ أصعد سُلمًا خشبيًّا مزدوجًا متروكًا فى قلب الشارع، أقترب إلى اللافتة بقماشها الأبيض الحليبى المفرود وأرانى -وقد أمسكت يدى بفرشاة- أكتب اسمها على اللافتة، فتضحك هى، نعم، قادمة من باب شرفة مجاورة تدنو كثيرًا حافتها إلى حافة روحى، دخولها صخب ومرح وبهجة موزَّعة على العالمين بالعدل والقسطاس، تفتح شراعات الشرفة وتستند وقد ألقى شعرها كله أمام وجهها وتداركت أصابعها جنون الشعر الجامح مع هواء مجلوب لها خصيصًا، ترفع كفّها وابتسامتها كأنها قمر يجلس على فرع شجر، وقلت لها: أنتِ هنا يا مجنونة؟ وضعت كفّها على فمها تمنع ضحكتها، ثم قالت: تعالَ.. تعالَ. ولما ذهبت وجدت نفسى هكذا هنا على مقعد فى هذه الكافتيريا، بين أنفاسنا سنتيمترات، هى المسافة نفسها التى تفصل بين دخول الجنة.. أو الخروج منها «وهل يخرج من الجنة مَن دخل؟!»، ذكَّرتنى أول ما التقينا.. وهل ينسى الإنسان هزّة قلب تجرف الحزن كله «لماذا لم تغنِّ أم كلثوم أغنية شبيهة بالحب كله.. تقول فيها الحزن كله؟!».
أذكر ليلتها ونسمات الهواء الصاخبة تغضب الشجر مع خماسين أبريل الموؤودة ليلاً.. وكنا جمعًا من الأسماء والوجوه أمام تلك البوابة الحديدية العالية المؤدّية إلى سُلم رخامى قديم يفضى إلى فسحة من المترات الحانية على التقاط الأنفاس، وكنا نقف متجاورين فى انتظار شىء أو أحد «أظننى أخبّئ الأسماء كلها فى صدرى»، وقالت لى وقلت لها.. فنجان القهوة الذى احتسته رشفات تعيد الاعتبار للبن البرازيلى، أمسكت به فى كفّى وقلت لها سأوصله بنفسى إلى فوق، كان الأمر كلّه أننى أريد أن أَمسّ هذا الدفء الحانى الذى لامَسته أصابع تشكِّل صورة جديدة للكون، هل تضحك هى؟ إذا قلت إن حبّى ومشاعرى منضبطة على هذا الوله المحموم لليالٍ جرى فيها قيس هائمًا فى صحراء تتسع بجريه وتتباعد بخطواته، هل أقول لكِ -الآن لعلك تقرئين سطورى- إننى أحد أحفاد هذا المجنون الحافى الذى أضناه لوع عشق مستحيل وفوضوى، وقضّ دموعه توق يطوِّق شرايينه ويجذبها إلى الارتماء مجذوبًا ومنجذبًا إلى دفق عينيها.
حين صعدت أمامى درجات السُّلم كنت أعتقد أنها تدق بقدميها حفرًا لن تردمه السنون فى صدرى، ورغم ألم مصمت ولحوح فى حشو جنبَى فإننى أدركت أسرى وأن الحتم قدرىُّ ومُحكم، والآن حارس طبيب يدعى اليقظة ينتظرنى كل مساء فى أثناء عودتى إلى البيت ولمعان خفيض لمسدسه -لا يقل طيبة عنه- يظهر من جنبه «متعمّدًا ظهوره»، والآن وجوف متقد بتوتر خفيف طلقات الرصاص تمس -عَجلى ومضطربة- حوافّ قلبى، واصطحاب تهديدات بالقتل أو الموت يتلقاها حدسى وسمعى ونظرى الضعيف.
وبينما تخفت رياح روحى وتشدّنى هموم خائفة مرتجفة إلى نفق أرضى مقبض، بينما كل ذلك -وأكثر- وأخبار يومية عن موتى وقتلى ومضبوطات عبوات ناسفة والاعتداء على الشخصيات العامة وخروج مصر من كأس العالم وعدم مذاكرة أخى رغم دنوّ امتحانه، وانشغال أصدقائى بقرع زجاجات الحياة أنخابَ أيام تمر، أعلن فى عينيها هذه الرعشة الرجفة التى تحرّك قلبى لصوتها ومرآها، أشم عطرها وألوذ بها وتنام روحى مستدفئة مستأمنة، عند قرط هلالى فى أذنيها.
خرجت من الباب الزجاجى ومسَّنى برد الشتاء الراحل ومشهد السيارات الساكنة المصفوفة فى الساحة المعتمة وسعى منادى السيارات اللاهث فى ممر ضيق للحاق بسيارة خارجة، وملصقات ضخمة لنجم أسمر يرتدى فى صعلكة محببة قبعة ونظارة غامقة وبنطلونًا ممزَّقًا، وأضواء متداخلة من مصابيح الأعمدة وأنوار السيارات ونفير متقطع متشابك وبائع صحف يفتح أربطة الطبعة الأولى ورصيف قصير أغلقت محلاته المطلّة، وحينما تركتها مودّعًا إلى طريقى وكانت منشغلة عنّى بها، كنت أحس أن روحى دافئة وأن ليلى جميل وأن قيسًا كان على حق، وكنت أشكر الله وأبتسم لقاتلى -الذى سيأتى- كأننى فُزت منه بساعة معها.