فهمى هويدى يكتب | نصائح مصرية غالية
هذا خبر جاد لا هزل فيه: مساء أمس الأول (الثلاثاء 19/8) دعا المتحث الرسمى باسم وزارة الداخلية فى مصر رجال الأمن فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحلى بضبط النفس وإيثار الحوار مع أهالى الشاب الأسود مايكل براون الذى لقى مصرعه على يد أحد ضباط الشرطة. فى صباح نفس اليوم وجه المتحدث باسم الخارجية المصرية عدة نصائح إلى الجهات الأمريكية المعنية، لترشيد تعاملها مع الاحتجاجات والمظاهرات التى انطلقت فى ولاية ميسورى للسبب ذاته. وكانت تلك المظاهرات قد خرجت فى مدينة فيرجسون إثر مقتل الشاب الأسود البالغ من العمر 18 عاما يوم 9 أغسطس الحالى. وما ان ذاع الخبر من تظاهر فى الشوارع أكثر من 400 شخص أغلبهم من السود معربين عن احتجاجهم وغضبهم، وترتب على ذلك اشتباكهم مع الشرطة التى بادرت إلى إلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع واستخدمت الهراوات لتفريقهم. ولم تتوقف المظاهرات الغاضبة رغم ان حاكم الولاية أعلن حظر التجول فى المدينة واستدعى الحرس الوطنى لاستعادة السلام والسيطرة على الموقف، بعدما فشلت الشرطة فى ذلك. خصوصا ان بعض المتظاهرين لجأوا إلى نهب المتاجر فى حين حاول البعض الآخر الوصول إلى مقر الشرطة لتصفية الحساب مع قتلة الشاب.
وسائل الإعلام المصرية أبرزت أخبار المظاهرات وتعامل الشرطة الأمريكية معها، وتعددت تعليقاتها التى تحدث بعضها عن تجمع الشرطة للمتظاهرين وندد البعض الآخر بافتضاح أمر الديمقراطية الأمريكية، الذى اعتبرته إحدى الصحف «سقوطا مدويا». فى هذه الأجواء جاءت نصائح المتحدث باسم الداخلية وصدرت تصريحات المتحدث باسم الخارجية المصرية السفير بدر عبدالعاطى، التى قال فيها ان مصر تتابع عن كثب تصاعد الاحتجاجات والمظاهرات فى مدينة فيرجسون، وأشاد بتصريحات السكرتير العام للأمم المتحدة بان كى مون باعتبارها تعكس موقف المجتمع الدولى تجاه الأحداث. خاصة ما تعلق منها بمطالبة السلطات الأمريكية بضبط النفس واحترام حق التجمع والتعبير السلمى عن الرأى. وأمله فى أن تؤدى التحقيقات الجارية إلى تسليط الضوء كاملا على مقتل الشاب الأمريكى وإنقاذ العدالة.
إذا سيطرت على مشاعرك وانفعالك بتصريحات المتحدثين باسم وزارتى الداخلية والخارجية، وحاولت ان تتصور رد فعل المواطن المصرى وهو يتابع التقارير المنشورة عن المظاهرات العنيفة التى جرت فى ولاية ميسورى، فستجد أن أمورا عدة لابد أن تستوقفه وتدهشه، منها أن السلطات أرجعت المظاهرات إلى أسباب عرقية، وان المتظاهرين لم يوصفوا بأنهم إرهابيون تحركهم أيد أجنبية، تآمرت لإسقاط الدولة الأمريكية والانقلاب على الرئيس أوباما. منها أيضا أن أسرة القتيل طلبت تشريح جثته، فاستجاب مسئولو الطب الشرعى وقرروا ان الشاب قتلته الشرطة جراء رصاصتين أطلقهما عليه ضابط الشرطة وأصابتا بطنه ورأسه. الأمر الذى يعنى أن ضابط الشرطة سيقدم إلى المحكمة لمعاقبته. منها أيضا ان انتقادات بان كى مون التى رددها وتضامن معها المتحدث باسم الخارجية المصرية لم تصنف فى واشنطن بحسبانها تدخلا فى الشئون الداخلية ولا عدوانا على السيادة الأمريكية. منها أخيرا ان المظاهرات تواصلت لأكثر من أسبوع ولم يقتل فيها أحد، فى حين الجرحى لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة (قيل إنهما اثنان فى البداية).
لا أعرف كيف كان صدى تصريحات المتحدثين المصريين فى واشنطن، لكنى لن استغرب إذا قيل لى أن المسئولين عن الشأن المصرى هناك تداولوا التصريحات ضاحكين، وقال أحدهم لزملائه: انظروا من يتحدث؟.. ذلك ان الأقدار شاءت أن تتزامن تصريحات ونصائح المتحدثين المذكورين مع الذكرى الأولى لمذبحة فض اعتصام رابعة، التى أعادت إلى الأذهان شريط الأحداث التى واكبت انطلاق الثورة فى مصر، ودور الشرطة فيها بدءا من قتل خالد سعيد وانتهاء بمذبحة الاعتصام وما تلاها ومرورا بإحراق 37 جثة فى عربة الشرطة أمام سجن أبوزعبل، وفى كل تلك الأحداث تمت لفلفة الوقائع وطمسها بحيث ظلت الشرطة بريئة من الدماء التى أريقت والأرواح التى أزهقت. وكان غيرهم ــ بمن فيهم الثوار ــ هم المجرمون والقتلة. وأسهمت أطراف عدة فى غسل أيدى الشرطة وتبييض صفحتها. من الطب الشرعى إلى النيابة والقضاء والإعلام الموجه، إضافة إلى نخب الموالاة والمنظمات الحقوقية الحكومية.
الخلاصة ان بيتنا من زجاج فى مسألة قمع المظاهرات السلمية باختلاف دوافعها، وما حدث فى مظاهرات ذكرى ثورة 25 يناير أو التى خرجت رافضة لقانون منع التظاهر فضلا عن تلك التى رفضت «الانقلاب» واحتجت على ما جرى للإخوان، لذلك لا أرى سببا وجيها للتصريحات التى أدلى بها المتحدثان المصريان. خصوصا انها جلبت لهما سيلا من تعليقات النشطاء التى سخرت من كلامهما وغمزت فيه، حتى أزعم أنهما لو سكتا لكان ذلك أفضل وأحكم. وأغلب الظن أن الدافع إلى مرور عام على فض اعتصام رابعة، كأن الداخلية والخارجية المصرية أرادتا ان تقولا للإدارة الأمريكية «واحدة بواحدة». لقد كان المتحدثان من الحصافة بحيث تجنبا دعوة الأمريكيين إلى احتذاء النموذج المصرى فى التعامل مع المظاهرات أو محاكمة المتظاهرين. وذلك يحسب لهما لا ريب. فى الوقت ذاته فإننى لا أخفى اعجابا بالنصائح الثمينة التى قدماها لهم، حتى إننى فكرت فى الدعوة إلى محاولة تطبيقها فى مصر، ولو على سبيل التدرج خلال السنوات الخمس المقبلة.