أيمن الجندى يكتب | فتش عن (زرارك) داخلك
تأملت طويلا فى تعاسات البشر. وحملتنى الأمواج فى بحر الحياة اللجى. ومررت بتقلبات عنيفة بين الحزن والسرور، والنشوة وخيبة الأمل. ومع الحزن الطويل والفرح القليل شرعت أتأمل فى أسبابهما. فوجدت بعد التأمل أن هناك عالمين متوازيين. يوجد عالم خارجى وآخر داخلى.
أما العالم الداخلى فيشتمل على أفكارك وذكرياتك وتيار وعيك. وأما العالم الخارجى فهو الذى تبنى فيه العمارات، وتسير فيه السيارات، وتوجد فيه البنوك والأعمال.
وعرفت أن التعاسة قد تنشأ من اضطراب فى العالم الخارجى أو الداخلى. وعرفت أن ابتلاءات العالم الخارجى كثيرة: حينما تكون مفلسا، أو احتياجاتك أكثر من دخلك، أو لديك مرض، فإن الإنسان يستنفر كل قواه للتغلب عليها. وإن لم يستطع أن يقهرها فإنه يتواءم معها. وينزل الله القدير من الصبر والسلوان وحسن التعزى ما يجعلك تستطيع أن تتجاوز المحنة! أذكر أنه يوما جاءنى مريض مقطوع الساقين ويعتمد على يديه فى رفع نفسه على سرير الكشف. قال لى ببساطة متناهية، وكأنه يتحدث عن شىء تافه، إن قطع ساقيه حدث بعد حادثة قطار منذ ثلاثين عاما، والحمد لله. ولبثت أفكر فى حجم معاناته ثلاثين عاما، نحن الذين ننكفئ فى تعاستنا من أجل أسباب تافهة. لبثت أفكر كيف يرفع نفسه على السرير! كم يدخل الحمام! كيف يعبر الطريق! كيف يمارس الحب! ثم سرعان ما تذكرت أن الله ينزل الصبر مع البلاء فى المصائب الحقيقية.
أما تعاسة العالم الداخلى فإنها أكثر تعقيدا. من الممكن أن يعطيك الله كل شىء فى العالم الخارجى. ألا ترون أن تسعين مليون مصرى يدفعون الآن ثمن الرغبة الجامحة لجمال مبارك فى حكم مصر. ذلك الشاب المدلل الذى أعطاه الله كل شىء. الصحة والشباب والأسرة المتماسكة والثراء العريض والزوجة الشابة والقصور الملكية. ونظرة العين التى تحرك طوابير المشتاقين إلى الرضا السامى. ومع ذلك كله كان يشعر بالتعاسة وعدم الرضا ويفتش عن الشىء الذى لا يُدرك.
ليس جمال مبارك فقط! كم من أناس أنعم الله عليهم فى عالمهم الخارجى ولكنهم يشعرون بتعاسة مطلقة. يشعرون أن الدنيا أضيق من ثقب إبرة، برغم أنهم يملكون الأموال والبيوت والأسرة والأرصدة.
تعاسات العالم الداخلى تكون أشد وطأة من تعاسات العالم الخارجى. لأن معظمها أمراض قلوب وبطر النعمة! ولذلك تجد الإنسان قد أعطاه ربه كل شىء وبرغم ذلك هو تعيس ولا يشعر بأى سعادة. إنه منكفئ فى أحزانه الداخلية، غير منتبه إلى أن كل شىء على ما يرام فى عالمه الخارجى. وبوسعه لو تجاهل الشىء الذى يتوق إليه وينغص عليه ولم يكتبه الله له لوجد نفسه أسعد البشر.
أؤمن أن فى داخلنا «زرار»، مثل زرار النور الذى ينير ويظلم. هذا الزرار يمكن بالضغط عليه أن نمحو تعاسات العالم الداخلى. هذا «الزرار» موجود ولكنه يحتاج البحث عنه حتى نجده. ووقتما تجده وتضغط عليه، فإنك فجأة ترى الأمور على حقيقتها فى عالمك الخارجى، كلها نعم قد أعطاها الله لك، ولكنك لم تفرح بها.
ربما تقوم فى نفسك مناحة وكل شىء فى الحقيقة على ما يرام. ربما أنت سجين عالمك الداخلى. فتش عن «زرارك» الداخلى واضغط عليه، واعلم أن الله يحب إذا أنعم على عبد أن يفرح بنعمه. ألم تر أن الأب يحزنه أن يجد ابنه لا يفرح بهداياه؟!