فهمى هويدى يكتب | غارة الإمارات على ليبيا
فى حين كانت صواريخ المقاومة الفلسطينية تستهدف مشارف تل أبيب ومطار بن جوريون فى إسرائيل، فإن الطائرات الإماراتية كانت تستهدف مطار طرابلس وأهدافا أخرى فى ليبيا. حدث ذلك فى بداية الأسبوع الحالى، وفى حين أبهجنا جهد المقاومة ورفع معنوياتنا، فإن غارات الطائرات الإماراتية صدمتنا، وسربت إلينا شعورا امتزج فيه الإحباط بالدهشة والبؤس.
تلك مفارقة أولى يستشفها المرء من الأخبار التى تسربت يوم الاثنين الماضى حول الغارة الإماراتية غير المسبوقة. التى نقلت الصراع العربى العربى إلى طور جديد تماما، استدعى إلى أذهاننا أحد أسوأ الكوابيس، وكنت قد ذكرت فى مرة سابقة أن الفلسطينيين أصبحوا وحدهم فى قلب معركة التحدى التاريخى الذى تخوضه الأمة العربية ضد إسرائيل. فى حين ان كل المعارك الأخرى التى تستنزف الجهد العربى تتم على جبهات فرعية وتصوب السلاح العربى فى غير وجهته الطبيعية، وأحيانا إلى الظهر أو الصدر العربى ذاته. وما خطر على بالى آنذاك ان تقدم الإمارات العربية الدليل على صحة هذه الرؤية، فى إعلان صريح على أن خصومة بعض العرب لأشقائهم أصبحت أشد وأعمق من تخاصمهم مع أعدائهم.
القصف الإماراتى لليبيا بدا شائعات لم تتأكد. سربتها أطراف ليبية هذا الأسبوع، بل ان صحيفة «الحياة» اللندنية وصفتها بأنها غارات خفية مجهولة المصدر (عدد الأحد 24/8) إلا أن الشائعات ثبتت صحتها فى تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز فى 25/8، ونقلت فيه على ألسنة أربعة من الجنرالات الأمريكيين قيام الطائرات الإماراتية بقصف بعض المواقع فى طرابلس، خصوصا بعدما استولى ثوار مصراتة على مطار المدينة، الذى كان تحت سيطرة قبائل الزنتان الموالية للقذافى تاريخيا، وهى الآن مؤيدة للواء المتقاعد خليفة حفتر، الذى أعلن تمرده فى بنغازى خلال شهر مايو الماضى. إضافة إلى المعلومات التى نشرتها الصحيفة الأمريكية فإن الطائرات الإمارتية ما كان لها ان تصل إلى أهدافها فى ليبيا إلا إذا كانت قد توقفت فى مصر. وهو ما لا يتعارض مع النفى الحذر الذى صدر عن الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى قال فيه إنه لا توجد لمصر قوات عسكرية فى ليبيا، كما انها لم تقم بأية أعمال عسكرية هناك. وذلك كلام صحيح لأن الدور المصرى تم خارج هاتين الدائرتين، الأمر الذى يعنى ان مصر لم تكن طرفا فاعلا فى القصف الذى تم، ولا ينفى أنها كانت شريكا فى التجهيزات التى سبقت الفعل الذى تم.
إذا أردنا ان نكون أكثر دقة فربما جاز لنا أن نقول بأن التدخل الخارجى والخليجى بوجه أخص فى مسار الأحداث التى شهدتها بعض الأقطار العربية ليس جديدا. فالسعودية والإمارات حاضرتان بقوة فى الفضاء السياسى بالمشرق والمغرب أيضا، كما ان قطر كانت حاضرة فى العديد من الأحداث السياسية أيضا. أما الجديد فى الأمر فهو شكل التدخل وموضوعه أو أهدافه. إذ ليس سرا ان بعض الدول الخليجية مولت بالمال والسلاح العديد من التفاعلات التى شهدتها المنطقة فى العراق وسوريا ولبنان والمغرب العربى. ولا ينسى ان مصر فعلت نفس الشىء فى المرحلة الناصرية. والنموذج المصرى كان واضحا فى انطلاقه من السعى إلى مقاومة الاستعمار ودعم حركات التحرر، الأمر الذى يضفى شرعية على التدخل، على الأقل من وجهة النظر النضالية.
إلا أن الغارات الإماراتية ينبغى أن تقرأ من منظور مختلف تماما. فهى تمثل انتقالا من التدخل غير المباشر إلى التدخل العسكرى المباشر، ثم انه لا يعد مساندة للدولة ولكنه محاولة لترجيح كفة طرف ضد آخر فى ذات الدولة. إذ لم يتم إلا بعد ما خسر الزنتان سيطرتهم على المطار وبعد خسران اللواء حفتر لبعض مواقعه المهمة، وكان الهدف من الغارات كان تعويض تلك الخسائر وتقوية صف اللواء حفتر فى مواجهة خصومه.
فى الوقت ذاته فإن التدخل الإماراتى السافر الذى توسد بالقوة العسكرية. وفاجأ الأمريكيين أنفسهم ــ كما ذكرت نيويورك تايمز والـ«بى.بى.سى» ــ يعد منعطفا مهما يفتح الباب لاحتمالات تطويره فى المستقبل، خصوصا ان الإمارات ليست وحدها، ولكنها تستند إلى شراكة سعودية وأخرى مصرية على الأقل. صحيح أن السعودية تدخلت فى البحرين فى شهر مارس عام 2011، إلا أن ذلك التدخل كان له سياق آخر تمثل فى كونه يتم فى إطار البيت الخليجى، ثم انه كان موجها ضد النفوذ الإيرانى بالدرجة الأولى. وتلك عوامل تختلف تماما عن سياق التدخل فى الشأن الليبى، المدفوع بثلاثة اعتبارات أخرى هى: إضعاف القوى الإسلامية وضرب معسكرات التطرف فى ليبيا، ومن ثم تعزيز موقف قوى الضد المعارضة للإسلاميين. الاعتبار الثانى تمثل فى إجهاض ثورة فبراير وتصفية آثار الربيع العربى الذى تجلت أصداؤه فى بعض الأقطار، وحققت السعودية والإمارات نجاحا فى التصدى لبعض رياحه. أما الاعتبار الثالث فهو حصار النفوذ القطرى ووقف تمدده.
إن ليبيا لاتزال تدفع ثمن الحقبة القذافية السوداء التى دمرت فيها الدولة حتى صارت مستودعا للفوضى ومغرية لكل طامع أو مغامر مهما صغر شأنه. أما الدور المصرى فليته ظل مقصورا على حل الأزمة، بدل أن يصنف طرفا فيها.