أيمن الجندى يكتب | دخيل فى بيتى
فوجئت به جاء ليقتحمه. سمعت خطواته الثقيلة الواثقة. وبدأت أفهم ببطء، واجتاحنى الرعب حين فهمت: دخيل فى بيتى.
فى تلك اللحظات الفاصلة عادت لى قصة حياتى كاملة. المرارة التى تجرعتها ولم أكن أعرف أنها مرارة. ينبغى أن يوجد شىء تقيس عليه لتعرف مقدار ما تشتمل عليه حياتك من حزن أو سرور. وأنا لم أعرف فى حياتى إلا الشقاء. أقولها للدقة حتى امتلكت هذا البيت. قبلها كنت مشرداً فى الشوارع. تعلمت الخوف منذ نعومة أظافرى. وعرفت أن الخطر يأتى مع النهار. حين يتطوع الناس لإيذائك دون سبب سوى أنك قبيح فى عيونهم. كانت ثقتى بنفسى منعدمة. ولعلى ورثت هذا القبح من أبى الذى لم أره. تخلى عنى كما تخلى عنى الجميع. هان عليه أن يتركنى مشرداً. الليل مملكتى. عندما يخف الضجيج فى الشارع، ويبدأ الجميع فى المغادرة، أعرف أن المكان قد صار آمناً. وأن الظلام سيحتوينى ويحتوى شقاءى. وقتها فقط أخرج لأشاهد العالم. أو أبحث عن طعام يُسكت الجوع الذى يقرص أحشائى. الجوع ألم. الجوع ستار ضبابى فى الرأس يحجب عنى التعقل. من غفلتى وقلة خبرتى كنت أتصور أن الجميع يجوعون مثلى. هذا هو نمط حياتى الذى لم أعرف غيره. لم أكن أعرف وقتها أن هناك من يختار بين أكثر من طعام. ويأكل ما يشتهى. هذا نوع من الحياة لم أكن أعرفه. بالنسبة لى كان هو الطعام والطعام فقط. تعلمت منذ بداية الوعى أن أحتال لأجلب الطعام لنفسى، وإلا مت عطشاً وجوعاً. وكثيراً ما أكلت من القمامة. لا أحد يهتم بشأنى.
وفجأة دخل البيت عالمى. لا أعرف كيف امتلكته ولكنه صار موجوداً فى عالمى. أنيقاً فاخراً هادئاً متسعاً! ولى وحدى! لأول مرة فى حياتى أعرف معنى الامتلاك. لأول مرة أعرف الراحة والشبع. أتمسح بالجدران. أستشعر الأمان. أذوب فى حب هذا البيت الذى غير مسار حياتى. لم أدر مقدار شقائى إلا حينما دخلت البيت وعشت بين أركانه. وفى الليالى الهادئة كنت أجلس لا أفعل شيئاً سوى التذكر. يمر على شريط حياتى بأكمله. أيام التشرد! الجوع! الخوف! المطاردة! ثم تدمع عيناى بدموع الشكر والفرح. وأحلم! آه كم كنت أستغرق فى الأحلام! أحلم بيوم ترفق فيه الأرض بأبنائها! ويجد كل المشردين من أمثالى بيتاً يضمهم!
وفجأة حدث ما حدث! كنت نائماً حين شاهدت أحلاما مزعجة. كوابيس تصورت أنها احتشاد الذكريات من الزمان الماضى. لكنى استيقظت وأنا غارق فى الغرق. لاهث الأنفاس شاعراً بالترقب. غريزتى أنبأتنى بالخطر. ولبثت أتسمع. أستنشق الهواء الذى حمل رائحة مختلفة. وضعت أذنى على الباب. ما هذا؟ هناك دخيل فى بيتى. دخيل يمشى بخطوات واثقة. دخيل يعرف أن خصمه ضعيف، هش، صغير لا يقوى على مواجهته.
كان أمامى خياران. الأول أن أواجه الدخيل وأجازف بحياتى. والثانى أن يتغلب جبنى الموروث وأفر هاربا. كان الخوف يمزقنى وأنا أسمع خطواته القادمة تجول فى المنزل. تتجه حولى. دخيل ولا يبالى بمن يشعر به أو يسمعه! أى ثقة! ورحت أشجع نفسى: «اثبت!». سأدافع عن بيتى حتى النفس الأخير! لن أهرب! ولكنى للأسف حين شاهدته ولّيت الأدبار وفررت هارباً. عائداً إلى البؤس والجوع وحياة التشرد. (من مذكرات فأر بعد أن عاد الساكن إلى بيته).