أيمن الجندى يكتب | حرائق فى المكتبة
أدهشتنى تلك الإجراءات الأمنية المفاجئة على باب مكتبة (دار الكتب) والتى وصلت إلى فتح الحقائب وتفتيشنا شخصيا. من جهة لأن المكان لا يحتوى إلا الكتب القديمة التى لا يهتم بها أحد، ومن جهة لأننى معروف لموظفى المكتبة بالاسم والوجه من فرط ترددى عليها. لكن ذلك لم يشفع لى.
ذهبت إلى أمين المكتبة لأسأله عن السبب. أخبرنى أن هناك حرائق حدثت فى بعض مكتبات قصر الثقافة! وفى أماكن وجدوا القصص ممزقة. وأنهم يخشون أن يتكرر الأمر هنا. وقضيت وجه النهار وأنا أفكر فى هذا الأمر العجيب. أتراه مهووسا يعتقد أن القصص حرام! أم واحدا من المجانين هواة الحرائق! وشرعت أرنو إلى ركن القصص فى شجن. سأكون حزينا جدا لو التهمتها الحرائق.
ومضت الأيام دون حدوث سوء وتراخت الإجراءات الأمنية. حتى بدأت ألاحظه. لم يكن يشبه المترددين على المكتبة. معظمهم من الشباب وصغار السن المفعمين بالأحلام. أما هو فكان يجاوز الستين. أصلع الرأس، نحيف إلى حد لا يُصدق.. أصابعه ترتعش، ركبتاه تهتزان، شفتاه ترتعشان!
كانوا يطفأون الأنوار تباعا استعدادا للرحيل. وكنت قد فرغت من القراءة وذهبت لأعيد الكتاب لموضعه. وإذا بى أجد كيسا مخبأً بعناية فى ركن منزوٍ. وعادت لى ذكرى الحرائق وتساءلت إن كان الكيس يشتمل على سائل سريع الاشتعال. وبالفعل لم أجد الكهل العجوز فى موضعه. رحل إن كان بريئا او اختبأ إن كان هو مشعل الحرائق المجهول!
ما أعجب الشباب! لقد كان فى وسعى أن أخبر أمين المكتبة. أو حتى أنصرف غير مبالٍ ولا أعرض نفسى للخطر. لكنى لم أفعل. اختبأت خلف ركن معتم حتى انصرف جميع من فى المكتبة. ولم ألبث إلا قليلا حتى تحققت ظنونى وسمعت حركة واضحة. وتحركت ببطء لأشاهد ما يحدث. كان هو. الكهل المجنون يمزق القصص فى غل، ويسكب سائلا بأصابع مرتعشة.
وخرجت من مكمنى مقررا أن ألتحم به. لكنه كان هشا ضعيفا أشبه بعود يابس. لذلك بدلا من أن أضربه احتضنته. كان يلهث بصوت مرتفع. وحاولت أن أهدأ من روعه. وهو ينزلق من بين يدى كسمكة خرجت من الماء لتوها.
وخرجنا معا بعد أن فتحنا الباب بسهولة! كان المساء يغلف المدينة بغلالة حزينة. والمارة يمشون مهرولين لا يدرون ما يحدث خلف النوافذ المغلقة. وخرجنا إلى الطريق وصافحنا هواء الليل البارد. وعرفت منه أنه أديب مغمور. كتب عبر السنوات قصصا لم يهتم بها أحد فأهدى نسخا عديدة للمكتبات العامة. لكن فكرة عجيبة تسلطت عليه. وهى أن أبطال القصص يعيشون الفرح والتعاسة التى يقررها لهم المؤلف مثلما تعيشها الشخصيات الحقيقية!
كان هذا ما استطعت أن استخلصه منه وسط دموعه المتساقطة. قال لى إن العالم تعيس بمقدار الحزن الكامن فيه. وأن شقاء هذه الشخصيات القصصية شقاء حقيقى. وقد زاره هؤلاء الأبطال فى الحقيقة والمنام وطلبوا منه أن يحررهم.
ظللت أصغى له فى صبر طيلة الليل تقريبا. ولم أتركه حتى وعدنى أن يستشير مختصا نفسيا. ولم أره بعد ذلك مطلقا! لكننى أحيانا أتذكره ولا أملك نفسى أحيانا من التساؤل: «هل يمكن أن يكون هذا العجوز محقا؟ هل يمكن- ونحن نقرر مصائر أبطالنا فى القصص بمنتهى السهولة- أننا نكتب عليهم الشقاء ونحبسهم فى عالم من الورق عاجزين عن التحرر»!.