فهمى هويدى يكتب | نقطة فى بحر التجاوزات
منذ تقرر حبس ثلاثة من أمناء الشرطة اتهموا بالتمثيل بجثة أحد الخارجين على القانون، وتمت إحالة أمين شرطة آخر إلى التحقيق بتهمة الاعتداء على فتاة معاقة ذهنيا، تحولت أصداء القصة إلى مسلسل شبه يومى فى الإعلام المصرى. إذ رغم أن محاسبة أى مواطن حتى إذا كان من رجال الشرطة على ما اعتبر اعتداء على القانون يعد أمرا عاديا فى أى بلد يعرف القانون، فإن ما اتخذ بحق أمناء الشرطة تحول إلى خبر أبرزته الصحف. ولم تتوقف التعليقات عليه طوال الأيام العشرة الأخيرة. فقد امتدح البعض موقف وزارة الداخلية، وكانوا محقين فى ذلك لا ريب، ليس فقط لأن ما جرى كان إعمالا للقانون، ولكن أيضا لأن محاسبة بعض رجال الشرطة على ما يرتكبونه من أفعال يفترض أن يبرئ ساحة وزارة الداخلية، وينسب المخالفات أو الجرائم إلى الأشخاص الذين يرتكبونها، وليس إلى هيئة الشرطة كلها.
ما أقلقنى وسرب إلىّ الشك كانت المبالغة فى الحدث. سواء من خلال تسليط الأضواء على ما وصف بأنه ملف تجاوزات أمناء الشرطة، أو من خلال التصريحات الكبيرة، التى صدرت عن مسئولى الداخلية، وذكرت أن الوزارة لن تتستر على أى اتهامات منسوبة إلى رجال الشرطة، وأن زمن التستر على الأخطاء انتهى إلى غير رجعة، إلى غير ذلك من الرسائل التى شممت فيها رائحة استثمار الحدث لتحسين صورة الداخلية وتبييض صفحتها، والإيحاء بأنها طوت صفحة الماضى، وأنها أصبحت تطل علينا الآن بوجه جديد يحترم القانون، ويلتزم بضوابط الدفاع عن حقوق الإنسان، ويقف بالمرصاد لكل تجاوز أو انتهاك للحقوق سابقة الذكر. وهو ما نرحب به ونتمناه بطبيعة الحال، إلا أننى أخشى أن تكون الحملة بمثابة تنشيط للدور الإعلامى لوزارة الداخلية، استثمارا للعلاقات الوثيقة التى تربطها بالعديد من الإعلاميين، الذين أصبحوا ينسبون إلى المؤسسة الأمنية بأكثر من نسبهم إلى مهنة الصحافة والإعلام.
ليس عندى أى دفاع أو تبرير لتجاوزات أمناء الشرطة، ولا أختلف مع من ينسب إليهم أخطاء أو تطلعات غير مبررة. لكننى لا أستطيع أن أحجب أربعة أسئلة تلح علىّ منذ طفت القضية على السطح. السؤال الأول يتعلق بالتركيز على تجاوزات أمناء الشرطة وتجاهل تجاوزات الضباط، ورغم أن ملف الأولين أضعف وأقل شأنا بكثير من ملف الأخيرين، وهو ما تؤكده وتكرره فى كل مناسبة تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة. السؤال الثانى يتعلق بما إذا كانت هناك صلة بين التركيز على ملف تجاوزات أمناء الشرطة وبين الحساسيات الموجودة بينهم وبين الضباط التى ظهرت على السطح قبل بضعة أشهر ثم تم احتواؤها حينذاك. السؤال الثالث يستفسر عن تسليط الأضواء على التجاوزات التى تتم بحق المتهمين فى مخالفات أو قضايا جنائية عادية، والتجاهل التام للتجاوزات التى تمارس بحق النشطاء السياسيين! وكأن حقوق الأولين يمكن صيانتها والنظر فيها، فى حين أن هناك استباحة شبه كاملة لحقوق الذين تنسب إليهم المشاركة فى أى نشاط سياسى معارض. أما السؤال الرابع والأخير فهو كيف يمكن أن تقنعنا وزارة الداخلية بأنها تطل علينا بوجه جديد (نيولوك) فى حين أن سياستها قبل الثورة هى ذاتها المستمرة فى الوقت الراهن، وأن سلالة حبيب العادلى استعادت مواقعها وعادت كى تباشر مهامها التقليدية وتصفى حساباتها مع النشطاء باختلاف مواقعهم.
إننا لا نستطيع أن نفصل حملة تحسين صورة الداخلية من خلال وسائل الإعلام عن حلقات أخرى سبقتها وسعت إلى تحقيق ذات الهدف. وهو ما تابعناه أثناء محاكمة مبارك والعادلى وأعوانهما فى قضية قتل متظاهرى ثورة يناير، حين حاول المتهمون والمحامون إقناع الرأى العام والمحكمة بأن المجرمين الحقيقيين هم الذين قاموا بالثورة. كما لمسناها فى التجاهل التام لتقرير لجنة تقصى حقائق المرحلة ذاتها، الذى وجه إدانة صريحة ودامغة للشرطة فى عمليات القتل والقنص، لمسنا أيضا ذلك الجهد فى تبرئة ضباط الشرطة فى أكثر من أربعين قضية قتل وتعذيب للمتظاهرين، وفى التهوين من شأن مسئولية ضباط الشرطة عن إحراق 37 شخصا عند ترحيلهم إلى سجن أبوزعبل. أما التجاوزات المروعة التى تتم هذه الأيام بحق المتظاهرين، الذين يجرى استنطاقهم للتعرف على خلفياتهم والجماعات التى تحركهم، فللمحامين والأهالى فيها كلام كثير، يفوق كل ما يمكن أن يحتويه ملف تجاوزات أمناء الشرطة.
لا نستطيع أن نتجاهل فى هذا السياق ملف المضربين عن الطعام، وعلى رأسهم محمد سلطان المضرب منذ أكثر من 210 أيام، وإبراهيم اليمانى المضرب منذ 125 يوما وصولا إلى علاء عبدالفتاح الذى دخل فى اليوم الثانى عشر، وكلهم ضحايا تجاوزات لا تقف الداخلية بعيدة عنها.
لست أدعو إلى شيطنة الشرطة، لأن الأزمة أكبر منها، لكننى فقط أردت أن أقول إنها ليست بالبراءة التى تدعيها، وأن تجاوزات الأمناء مجرد نقطة فى بحرها الواسع.