وائل عبدالفتاح يكتب | فضيحة في القاهرة
رحل نجيب محفوظ فى إجازته.
ومع بداية أُفول الصيف، أغسطس، أحد الشهور التى يترك فيها كل شىء ويسافر إلى الإسكندرية هربا من جو القاهرة الخانق، ومن حساسية فى العين تمنعه من العمل فى الفترة من الربيع إلى الشتاء.
رجل الساعة كما سماه محمد عفيفى.
كان يذهب إلى سهرة الحرافيش فى بيت عفيفى بالهرم.. يصحب معه كيلو كباب وكيلو بسبوسة.
ولأن السهرة عامرة بالمزَّات الطازجة، كان الكباب من نصيب القطط.. وكانوا يقولون له: كفاية. وهو لا يغير عاداته.. كيلو الكباب.. والقطط.
ها هو يغيب فى لحظات انفلاته بعدما ترك صورته الأخيرة عالقةً فى الأذهان: حكيم فوق الاختلاف، ورمز عابر للسنوات والعصور الطويلة. صامت. حضوره أكبر من كلماته الشحيحة والمقتضبة.
استأذن محفوظ دراويشه تاركا لهم فرصة تلقّى خبر انسحابه بهدوء، وتوقّع الخديعة الوحيدة.. إنه لن يعبر اختبار الحياة بعد الرابعة والتسعين. استسلم لتعطّل أجهزة الجسد الذى سيطر طويلا على نزواته كما سيطر على هزائمه. لم يترك الحشيش والنساء ولا النكات الجنسية رغم هيئته الوقورة. وعاش صديقا لمرض السكر أكثر من 44 سنة.
لم يغادر القاهرة إلا إلى الإسكندرية غالبا.
ولم يسافر خارج مصر إلا ثلاث مرات مضطرا: يوغوسلافيا.. واليمن (مرة مع المشير عامر) ولندن (بعد محاولة الاغتيال).
لا يخاف السفر.
ولكنه أسير النظام.
أسر يجد فيه حريته.
وسماحة تكشف له نهاية طريق صعب.
يخيم على رفاق الجلسة الأسبوعية مزاج الاكتئاب.. ذكريات الزلزال تدفع إلى حالة من رعب وجودى.. نجيب يستمع ويفاجئهم بنكتة: «.. أنا فى الحقيقة كنت أنظر إلى السقف.. أنتظر أن تسقط برلنتى عبد الحميد (جارته فى الشقة العلوية) وتجلس بجوارى..».. النظام جعله رجل الساعة.
يكتب فى مواعيد محددة. يعرف الجيران الساعة عندما يرون ضوء حجرته مشتعلا. ويغلق هو الضوء والحجرة فى ساعته المحددة.. حتى لو كانت رغبته فى الكتابة مستمرة.
من هذه الصرامة كان يعمل مثل المكتشفين.
يحفر.. ويحفر حتى يجد اللؤلؤة.
أبطاله أصبحوا هم الواقع.
بطلة «فضيحة فى القاهرة» وهى الاسم الذى اختاره إحسان عبد القدوس لروايته التى صدرت فى طبعاتها الأخرى باسم: «القاهرة الجديدة».. البطلة وشريكها محجوب عبد الدايم.. وحبيبها الاشتراكى الفقير.. 3 موديلات لصراع المجتمع فى لحظة تحول.. هكذا أيضا.. أبطال «الثلاثية». أصبحوا هم الواقع… سى السيد وأمينة. ذكورة وأنوثة الاستبداد الشرقى المغرم بالقهر والمتعة. واقعية حارقة حين تضبط البطل فى أسئلة مفترق الطرق. شادية فى «زقاق المدق»، وعمر الشريف فى «بداية ونهاية»، ونور الشريف فى «السراب». الأبطال حائرون. والأديب يغيّر زوايا الاقتراب من الفلسفة إلى علم النفس، إلى تشريح المجتمع.
ربما تبدو الواقعية فى المعمار. الولع بالبناء. وليس فى اللغة أو طريقة الحكى. نجيب موهوب فى بناء ملائم لحكاية البطل. كلاسيكى أحيانا. أو مستجيب لموضات الكتابة، لكنه مستقر، غير مقلق. لا يهدم العالم على رأسك. أسئلته هادئة. وجنونها عاقل. مسيطر عليه. لا يحب الحواف. يقف فى المنتصف. فى المركز.