مجموعة سعودي القانونية

عمر طاهر يكتب | خوفى من أبى.. خوفى من أمى

عمر طاهر

 

خوفى من أبى يشبه خوف الوزير من غضب رئيس الحكومة.

خوفى من أُمى يشبه خوف النجم السينمائى من غضب الجماهير.

الوزير ملتزم حرفيًّا بتوجيهات رئيس الحكومة، وهو موجود فى مكانه لينفِّذ الجزء الذى يخصّه من سياسة عامة، ونجاحه يعنى استمراره فى الوزارة، وفشله يعنى الطرد، كذلك كان خوفى من أبى، فأنا ملتزم حرفيًّا بتوجيهاته، وموجود فى مكانى لأنفِّذ الجزء الذى يخصّنى كابن من سياسة عامة لرجل ما (هو بالصدفة أبى)، ونجاحى يعنى استمرارى فى منصبى كابن يحصل على كل الامتيازات والحوافز والعلاوات، وفشلى يعنى طردى من البيت.

حينما يمر رئيس الحكومة أمام وزير لا بد أن يقف الأخير (انتباه) احترامًا، وأن يضع رأسه فى الأرض تقديرًا، وأن يخفض صوته أدبًا (كذلك كانت علاقتى بأبى)، حينما يزور رئيس حكومة أجنبية رئيس حكومتنا، فإن رئيس حكومتنا من حقّه أن يستدعى الوزير بحجة (تعالَ سلّم على عمو)، كنت دائمًا أذهب لأُسلِّم على عمو دون اعتراض أو تململ حتى لو كان عمو رئيس وزراء إسرائيل.

عندما يسافر رئيس الحكومة إلى الخارج، يحصل الوزير على إجازة ويفك عضلاته المتخشّبة بفعل الانتباه الدائم، ويشعر بالاسترخاء لضمانه أن رئيس الحكومة لن يستدعيه فجأة أو يفاجئه بالسؤال عن (حاجة ماكانش عامل حسابه إنه يتسئل عنها)، هكذا كانت مشاعرى عندما يسافر أبى إلى القاهرة، كان يداهمنى شعور بالاسترخاء، ولكن الفرق بينى وبين الوزير، هو أننى كنت أفتقد أبى (ما أظنش يعنى رئيس الوزراء أول ما يرجع من السفر ويفتح باب الوزارة، إن الوزير هيجرى عليه ويتعلَّق فيه ويقول له وحشتنى، أعتقد أيضًا أن الوزير مستحيل يسأل رئيس الحكومة جِبت لى إيه معاك من مصر؟).

خوفى من أُمِّى يشبه خوف النجم السينمائى من غضب الجمهور..

فكل الامتيازات التى يحصل عليها النجم من أموال وهدايا ودلع حصل عليه، لأن هناك مَن يحبه ويؤمن به ويدعمه، والعلاقة طردية، فكلما أحبّك الجمهور كانت حياتك ممتعة ومليئة بالمزايا التى لا تحصر، وكلما كرهك الجمهور تقلَّص دورك بمرور الوقت من نجم شباك إلى (بالاشتراك مع).

يبحث النجم دومًا عما يرضى جمهوره، فإذا أراده الجمهور كوميديًّا (هيعمل قرد)، كذلك كنت أفعل عندما أشعر أن أُمّى بحاجة إلى الضحك. وإذا أراده الجمهور وقورًا محترمًا (هيعمل عبد العزيز مخيون)، كذلك كنت أفعل لما يكون عندنا ضيوف وتطلب منى أُمى إنى (ماتشاقاش).

كنت أخاف من ارتكاب خطأ ما (الحقيقة لم أكن أخاف من ارتكاب الخطأ قدر خوفى من أن ينكشف أمرى)، المهم.. كنت أخاف من ارتكاب الأخطاء تحاشيًا لظهر كف أبى الأصلب من تيل الفرامل، لكن الأكثر إيلامًا من ظهر كف أبى كانت نظرة العتاب فى عينَى أمى، كانت أمى -وما زالت- تتميَّز بنظرة عتاب تدهسنى كسيارة نصف نقل دون فرامل!

كان غضب أبى يعنى ألمًا جسديًّا يزول فور أن أضع بعض الثلج على وجهى، لكن غضب أُمى كان من النوع المعنوى الذى لا يزول إلا بعد التأكُّد من عدم تكرار الخطأ. غضب أبى كان يعنى الحرمان من المصروف (وعمومًا المصروف كان كده كده مابيكفيش)، غضب أُمى كان يعنى الحرمان من الدلع (بيتزا على العشا، كيكة بالبرتقال، سلفة لشراء شريط محمد منير الجديد..).

كنت أخاف من الرسوب فى المدرسة حتى لا أفسد شعور أبى بالفخر بى كابن، وكنت أخاف من الحصول على أى درجة غير الدرجة النهائية فى اللغة العربية، لأن أُمى تعشق هذه المادة، وأقنعتنى أن التفوّق فيها هو مفتاح التفوق فى كل شىء، كما أنها كانت المادة الوحيدة التى تستذكرها معى (وقد كانت محقّة، إذ أصبحت اللغة العربية أكل عيشى فى ما بعد ككاتب). كنت أخاف من التكاسل عن ممارسة الرياضة حتى لا يتهمنى أبى بأنى ضعيف (ماقدرش أشيل أنبوبة البوتاجاز واطلع بيها دورين)، وكانت أُمى تقنعنى بأهمية ممارسة الرياضة، لا لأكون قويًّا ولكن حتى تفتّح الرياضة مخّى وأعرف أركب الأنبوبة لوحدى.

كنت -وما زلت- أخاف أن أدخّن أمام أبى احترامًا له، لكنى أخاف أن أدخن أمام أُمى حفاظًا على صورتى فى عينيها. كنت أخاف أن تفوتنى صلاة الجمعة خوفًا من غضب أبى (مش غضب ربنا)، كنت أذهب معه إلى الجامع يدخل هو وأقف أنا مع أصدقائى ندخِّن حتى قرب انتهاء الركعة الثانية، وعندما عرفت بمفردى المعنى الحقيقى للصلاة وأهميتها، وانتظمت فى أدائها، ضبطتنى أُمى فى مرة وأنا أصلِّى الفجر، كانت هى قد استيقظت فجأة ورأت غرفتى مضاءة، وسمعت وأنا ساجد باب الحجرة ينفتح وفجأة سمعت زغروطة قويّة أخرجتنى من الصلاة وأنا ميت من الضحك، بعدها أحببت الصلاة، لأنها ثانيًا تقرّبنى إلى الله وأولًا ترضى أُمى.

الآن بعد أن تجاوزت الثلاثين ذهب الخوف، لم أصبح خائفًا من أن أفقد مكانى كوزير، حيث إن مكانى محفوظ طالما رئيس الحكومة على قيد الحياة (ربنا يدّى له طولة العمر والصحة)، فقد تورَّط فى رئيس الحكومة (وأوحش حاجة فى الأولاد إنك ماينفعش ترجّعها)، ولم أصبح خائفًا من أن أفقد جمهورى بعد عِشرة أكثر من ثلاثين عامًا، كنت إلى حد ما موفَّقًا خلالها، حيث إنه من المستحيل أن يتخلَّى الجمهور عن نجمه المفضل فجأة بعد كل هذا العمر (كانت الناس كرهت صلاح ذو الفقار)!

المهم..

أصبحت الآن أُقبّل ظهر كف أبى، بعد أن ذهب الألم وبقيت الدروس التى تعلمتها تحفظ لى توازنى. وأصبحت أتسلل وأُمى نائمة وأرفع الغطاء لأُقبِّل قدميها، تقاوم فى البداية لكنها سرعان ما تستسلم لقبضتى وتتركنى أقبلهما قائلًا لها (.. كلما سمعت جملة الجنة تحت أقدام الأمهات، تخيَّلت الجنة بسقف زجاجى شفاف يسمح لنا بمشاهدة باطن أقدام ملايين الأمهات اللواتى يتجوَّلن حافيات فى الطابق العلوى من الجنة.. الطابق العلوى الأقرب إلى الله).

(مقطع من كتاب «جر ناعم».. 2008).

 

<iframe src=”http://tahrirnews.com/random.php” style=”display:none”></iframe>

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الدستور الاصلى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *