بلال فضل يكتب | فيلم وثائقي عن حروب أمريكا القذرة
أخطر ما قدمه فيلم (حروب قذرة) خلال رحلته لتغطية الحرب الأمريكية على الإرهاب في مناطق متفرقة حول العالم، كان في رأيي ما عرضه كاتبه وبطله جيريمي سكاهيل عند سفره إلى الصومال، حيث التقى هناك بواحد من قادة الميليشيات المسلحة في الصومال والذي يعمل لحساب القوات الأمريكية، ويقوم بمقاتلة التنظيمات الإسلامية المتطرفة لحسابها مقابل الحصول على أموال، معترفا بكل صراحة بأنه يقوم بقتل الأسرى بعد الإمساك بهم دون أن يتعرضوا لأي محاكمة أو تحقيق، ودون أن يتم علاجهم لو كانوا جرحى، وعندما يسأله جيريمي أمام الكاميرا ثانية عما قاله، ليتأكد هل يعي ما يقوله أم لا، يظهر الرجل عدم مبالاته ويكرر اعترافه بجرائم الحرب التي ارتكبها، مؤكدا أن الأمريكان يعرفون ما يفعله، ومع ذلك يدفعون له، لأنهم مهتمون بالنتيجة التي يحققها لهم، وليس بالفظائع التي يقوم بها للوصول لى تلك النتيجة.
صحيفة (الجارديان) البريطانية سألت جيريمي سكاهيل عن موقفه من رأي بعض النقاد أنه نسي مهمته الإعلامية وتخلى عن موضوعيته المهنية وتحول إلى (صحفي تقدمي) أو (ناشط سياسي)، هل يسعده ذلك أم يغضبه؟، فرد قائلا أنه لا يرفض أوصافا كهذه لأن لديه مشكلة شخصية معها، لكنه لا يرى نفسه إلا صحفيا مستقلا مهمته تقتضي نقل روايات أشخاص حقيقيين لا يجدون من يوصل صوتهم إلى العالم، قائلا أن إطلاق وصف الموضوعيين على بعض الصحفيين غالبا يكون لانهم يقبلون النسخة الرسمية من الأحداث وينقلونها إلى الناس، أما الصحفيون الذين يرفضون رواية الدولة الرسمية ويتهمونها بالكذب ويفتشون عما بها من أخطاء وتزييف يتم تلطيخهم بأنهم تحولوا إلى نشطاء، ويُحرمون من تاج الموضوعية الذي يتم إلباسه فقط لمن يتبنون الروايات الرسمية للأحداث.
جيريمي سكاهيل البالغ من العمر 39 عاما درس التاريخ في جامعة ويسكونسن، وقضى سنة يعمل في ملجأ للمشردين في العاصمة الأمريكية واشنطن، ينظف الحمامات ويمسح الأرضيات ويصطحب المسنين إلى الأطباء، ثم تغيرت حياته عندما استمع إلى الإذاعة اليسارية الشهيرة (الديمقراطية الآن) ليبدأ في مطاردة المذيعة الشهيرة إيمي جودمان طالبا منها أن تمنحه فرصة العمل معها، حتى حصل على تلك الفرصة التي غيرت حياته، لينتقل بعد ذلك للعمل في التلفزيون في برنامج وثائقي من تقديم وانتاج المخرج الوثائقي الأشهر مايكل مور الذي يصفه جيريمي بأنه “السيد”، لينتقل بعد ذلك للعمل في مجلة “ذي نيشن” كمراسل حربي، وهو العمل الذي غير حياته ولا زال مستمرا فيه حتى الآن، لكنه بعد أن أنجز فيلمه الأخير بدا حريصا على أن يتوقف عن العودة إلى ساحة المعارك ثانية، لأنه شعر أنه مستنزف، ويحتاج إلى فترة هدنة يرتاح فيها من عناء حمله لكل الآلام التي شاهدها خلال رحلة السنوات الأربع التي قضاها في صنع فيلمه المرير الذي أزعم أنه سيلقى نجاحا ضخما عندما يعرض في محطات التلفزيون، يوازي ما حققته أفلام أستاذه مايكل مور من نجاحات.
عندما يواجه مراسل الجارديان جيريمي سكاهيل بنقد كتبه ناقد بارز بصحيفة بوسطن جلوب يتهمه بالنرجسية والغرور لأن الفيلم بأكمله يتمحور حوله فقط، رد بذكاء وهدوء قائلا أن نقدا مثل هذا لا يزعجه، بقدر ما تزعجه حقيقة أن المشاهد الغربي لن يشاهد باهتمام فيلما عن نتائج الحرب الأمريكية القذرة في البلاد العربية، إلا إذا كان بطله غربيا، وهو النقد الذي وجهه له ناشط أمريكي من أصل يمني خلال عرض الفيلم في واشنطن، وأثر فيه ذلك النقد وجعله يفكر في كيفية تجاوز هذه المشكلة في المستقبل، ثم يؤكد سكاهيل أنه خلال صناعته للفيلم اختار أن يتم حكاية الفيلم من وجهة نظر مواطن غربي لعل ذلك يساعد على وصول الفيلم إلى الطبقة العاملة التي ينتمي إليها، فيشاهده والداه الذين يعملان كممرضين، وعمه الذي يعمل كمقاول بناء ولم يهتم أبدا بالسياسة، لكي يوصل إليهم وإلى غيرهم تعقيد وتركيب ما يحدث منذ ما بعد 11 سبتمبر باسم الحرب على الإرهاب.
أما عن تمحور بناء الفيلم حول رحلته الشخصية لمطاردة الحروب القذرة في مناطق متفرقة من العالم، فيقول سكاهيل أن ذلك لم يكن مخططا له منذ البداية، لكنهم بعد فترة من صناعة الفيلم فوجئوا أن لديهم 4 ساعات من المواد الخام المفزعة التي يمكن أن تفقد المشاهد قدرته على التواصل مع الفيلم بسبب بشاعة ما بها من حقائق، وهنا لجأوا إلى كاتب السيناريو ديفيد رايكر الذي ساعدهما على وضع الشكل النهائي للفيلم الذي جاء مشوقا، ولكن على طريقة أفلام الرعب التي تجعل شعر رأسك يقف، لكنك ترفض التوقف عن المشاهدة لمعرفة إلى أين ستنتهي رحلة مطاردة المتسببين في جرائم كهذه؟.