أيمن الصياد يكتب | عن الخليفة والأمير والرئيس.. «والثقافة الحاكمة»
آه كنا بنتنصت طبعا… كنت باغرس القيم الأخلاقية. كنت أقول للإخوة لما تلاقوا وانتوا بتسجلوا إن فيه حاجات متعلقة بأخلاقيات وسلوك.. هات صاحبتنا وقولها عيب إمشى كويس مايصحش.. ليه؟ منها مكافحة، ومنها تجنيد..» ــ النص بلغته من مرافعة وزير الداخلية الأسبق اللواء حبيب العادلى أمام محكمة الجنايات (٩ أغسطس ٢٠١٤)
هامبورج – ألمانيا ١٣ يونيو ١٩٣٦ © Die Zeit
بغض النظر عن «شكلية» استيفائه لإجراءات قانونية فى بعض الحالات، وقف «المتهم» فى ساحة المحكمة مترافعًا، أو بالأحرى «متباهيًا» بما كان يفعل. بل وبتجاهله روح القاعدة الدستورية التى تتبدى فى نصوص كل الدساتير: «للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة» ــ المادة ٥٧ من الدستور الجديد
لم يجد الرجل حرجًا، كما لم يجد المجتمع كله أى حرج فى أن يجلس ليتسامر كل مساء أمام شاشات تليفزيون ترتكب الإثم ذاته. (بعض قاعات المحاكم وملفات القضايا لم تكن بمنأى عن ذلك) ونسى المتسامرون يوم صفقوا (هم أنفسهم) للرئيس السادات حين أحرق بنفسه مثل تلك الأشرطة، فى ذلك المشهد «المحترم» فى مايو ١٩٧١
•••
فى كتابه العمدة عن «المجتمع الأبوى» أو البطركية الجديدة Neopatriarchy: A Theory of Distorted Change in Arab Society والمنشور عام ١٩٨٨، شرح لنا المثقف العربى «المختلف» هشام شرابى (١٩٢٧ – ٢٠٠٥) كيف تتماهى الصور بين الأب فى العائلة، والمدير فى الشركة والحاكم فى الدولة، فى «بنية ثقافية رأسية» تتركز فيها الصلاحيات كما المسئوليات. ويصبح فيها «رأس النظام»؛ أيا كان هذا النظام (من العائلة إلى الدولة) ليس فقط محتكرا لكل الصلاحيات، بل وعليه أيضا مسئولية إطعامنا وسقايتنا. ومن ثم تربيتنا. في منظومة هرمية ثقافية فريدة للسطوة والسلطة.
كان كتاب شرابى قد لفت انتباهى حين صدر، إلى ما كنا قد ألفناه فى خطابات الرئيس السادات التى كان يوجهها عادة إلى «أبنائى المواطنون».. أو «أبنائى الجنود»… الخ، كما تذكرت الكتاب «والنظرية» حين لاحظت مفردات خطاب مبارك أمام المحكمة قبل أسابيع، وكذلك حديث وزير داخليته المشار إليه. وكان المثقف «الفذ» قد خلص فى كتابه «الصادم» إلى رؤية جديدة تتحرر مما أدمن المثقفون والساسة العرب أن يلوكونه فى أحاديثهم وخطاباتهم السياسية من اتهام «للآخر/ الغرب عادة» بوصفه هو المسئول الأول والوحيد عن تأخر مجتمعاتنا. معتبرا أننا لا نملك شجاعة الاعتراف بما فى «البنية الثقافية/ الرأسية» الحاكمة القائمة على «الحاكم الفرد» من قصور يتحمل مسئولية إخفاق كل محاولات النهضة التى جربنا فى القرنين الماضيين.
وأذكر أن بيننا (على قلتهم) من كان قد عاد إلى كتابات الرجل الاستشرافية القاسية تلك عندما غادرنا (٢٠٠٥) متوقعًا أننا سائرون «حتما» على الطريق الذى وصلنا إليه الآن. وأن الاستبداد البنيوى فى المجتمعات «الأبوية» العربية لابد وأن يؤدى إلى انهيارها فى نهاية المطاف. مهما تباهى البعض «بقادسيته»، أو بشعبيته، أو بمكوثه فى السلطة ثلاثة عقود لم يهتز فيها كرسيه.
•••
هل علينا أن نقلق؟
أملا فى الله وحده، لا أعرف. ولكنى أعرف أن من سمات «المجتمع الأبوى/ البطركية» تلك أن يتصور ذوو الشعر الأبيض مثلنا، أو أولئك الجالسون فى صدر الديوان، أو الجاثمون على مقاعد السلطة، أو المتوهمون الزعامة، أو المعتلون المنبر أنهم «وحدهم» يملكون الحكمة وفصل الخطاب. وأنهم إن تحدثوا فعلى الجميع أن يصمت. وأن يكتفى بحفظ «الكتاب الأخضر» أو الاقتداء الأعمى «بمعالم الطريق».
فى ثقافة المجتمع الأبوى، تتجاوز نتيجة الاستفتاءات والاستبيانات الثمانين فى المائة، ويصبح الجالس «على الكرسى»؛ مديرا أو أميرا، أو رئيسا للجمهورية دائما على صواب، أيا ما كان قوله، وأيا ما كان اسمه. وتشيع ثقافة الراعى والرعية، وتنتشر عبارات «مرسى رئيسي» مقابل «السيسى رئيسى»، رغم حقيقة أن كلا منهما كان/ أو صار «رئيسا للدولة» لا رئيسا للمصريين. والفارق كبير لو وعينا اللغة وما تحمله من دلالات.
فى ثقافة المجتمع الأبوى لا تستغرب أن تجرى جهة ذات مصداقية «بصيرة» استبيانا للرأى بعد ٨٠ يوما من حكم مرسى (١٧ سبتمبر ٢٠١٢)، فتكون النتيجة أن نسبة الموافقين على أدائه ٧٩٪. ثم تجرى الجهة ذاتها استبيانا مماثلا بعد ٨٠ يوما من حكم السيسى (٣١ أغسطس ٢٠١٤)، فتكون النتيجة «المتقاربة» أن ٨٢٪ يوافقون على أدائه. وفى الحالتين، تجد النتيجة من يصفق لها.
فى ثقافة المجتمع الأبوى، لا يجد المسئولون حرجا فى أن تشيع فى خطابهم عبارة «حسب توجيهات السيد الرئيس»، بدلا من التدليل على وجاهة القرار أو مدى التزامه بالخطط الموضوعة أو بالقانون. تقول حكاية دالة ذات صلة (مايو ٢٠١٠) أن الرئيس «وقتها» اصطحب عددا من وزرائه لتفقد عدد من مشاريع تنمية الصعيد. ثم كان، على الهواء مباشرة أن سأل «الرئيس» مرافقيه عن «جسر» كان من المفترض أن يجرى انشاؤه لربط ضفتى النهر: «لماذا تنشئونه هنا، لا هناك؟» وأشار بإصبعه. ماذا كانت الإجابة؟ أجاب أحدهم على الفور بالإجابة المتوقعة فى مثل هذه ثقافة: «نعمله هناك يا ريس» (!) ولا عزاء للمهندسين الذين يعرفون كيف تبنى الجسور، والذين من المفترض أنهم أجروا الاختبارات والأبحاث الإنشائية وتلك المتعلقة بالحركة قبل تحديد المكان الملائم. لا غرابة فى الأمر.. هل قرأتم الصديق نجاد البرعى فى «المصرى اليوم» ٤ سبتمبر٢٠١٤ يحكى لنا قصة «كفر البطيخ»؟.. تلك ببساطة هى «الثقافة السائدة».
من الحكايا التى عشناها، وشاهدناها «على الهواء» أيضا، ما كان من السيد يوسف والى صباح المؤتمر العام للحزب الوطنى الديمقراطى (١٥-١٧ سبتمبر ٢٠٠٢) وكان وقتها أمينه العام، عندما سئل عن شائعات كانت تتردد عن إعفائه، وتكليف «الابن»/ أو صفوت الشريف بالمنصب، فكان رده المختصر والدال على هكذا ثقافة: «كلنا سكرتارية السيد الرئيس.. وهو يضع أيا منا فى المكان الذى يراه ملائما» لا حظوا، كان هذا حديث الأمين العام للحزب «الديمقراطى»، صبيحة ما يُفترض أنه انتخابات للمناصب القيادية للحزب، ومن بينها بالطبع منصب أمينه العام (!)
والذى يعرف القصة المثيرة لإنشاء الحزب ذاته، لن يستغرب قطعا. إذ تقول القصة المعروفة أنه ما أن أعلن «الرئيس» أنور السادات، والذى كان وقتها رئيسا لحزب مصر العربى الاشتراكى (الحاكم) عن تأسيسه لحزب جديد «الحزب الوطنى الديمقراطي» حتى هرع أعضاء حزب مصر؛ كلهم عدا نفر يُعد على أصابع اليدين إلى «حزب الرئيس». لماذا؟ لأن تلك ببساطة هى «الثقافة السائدة».
•••
فى ثقافة المجتمع الأبوى تتجسد حكمة العبارة القرآنية «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ» – الزخرف ٥٤. حدث هذا فى التاريخ «المدمر» كله. سار الألمان خلف هتلر، وسار الأوروبيون خلف البابا أوربان الثانى (١٠٩٥) وسار الإخوان خلف منصتهم فى تلك الأيام الكئيبة من الصيف الماضى. وفى الحكايا المتوارثة أن سار الصغار مغيبين إلى حتفهم خلف «الزمار ذى الثياب المزركشة» فى قصة العصور الوسطى الألمانية الشهيرة Pied Piper of Hamelin
فى ثقافة المجتمع الأبوى، ينتقد «المعارضون الجدد» كل شىء، وكل مسئول عدا الرئيس «المنزه عادة عن الخطأ». جربنا ذلك ثلاثين عاما مع صحف وبرامج «التوك شو» أيام مبارك، ولأننا لا نتعلم، بل لا نستريح إلا لما «أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» يعمل بعضنا جاهدين على استنساخ التجربة التى أثبتت فشلها فى هذا اليوم من يناير ٢٠١١
فى ثقافة المجتمع الأبوى لا تهتم الدولة؛ مسئولين ومواطنين «بالشفافية»، التى هى أساس المحاسبة والديمقراطية التشاركية. كما لا يسأل الناس عن البيانات أو المعلومات، ما دام الرئيس (أيا من كان الرئيس) يعرف(!). كما لا يسألون عن دراسات الجدوى لمشاريع يضعون فيها «استثماراتهم» المفترضة، «فولى الأمر مؤتمنٌ على بيت مال المسلمين».
فى ثقافة المجتمع الأبوى «ليس من حقك أن تعرف أصلا»، ولهذا لا يصدر أبدا قانون لتنظيم الحق فى تداول المعلومات. رغم أنف كل الدساتير التى نصت على ذلك (مادة ٦٨ فى الدستور الجديد)، ورغم أن مشروعا لهذا القانون قتل بحثا، ورغم أن محاولات المضى قدما فى إصداره تعود لسنوات (شاركت شخصيا فى بعضها منذ أيام الوزير أحمد درويش، وحتى الجهود الصادقة المحبَّطة للوزير «المستقل/ المستقيل» أحمد مكى قبل أن تجبره سياسات الإخوان على الاستقالة). وأعرف، كما غيرى كم هى الجهود والمناورات القانونية والأمنية لإصداره فارغا من مضمونه فى حال «الاضطرار» يوما لتقنينه، استيفاء لمتطلبات مؤسسات التمويل الدولية. وهو الأمر ذاته الذى يتعرض له قانون الجمعيات والعمل الأهلى، الذى يبقى من باب الغرائب التى لا تحدث إلا فى «المجتمع الأبوى»، أن ينكر الوزير السابق، والوزيرة الحالية أن أيا منهما مسئول عن التعديلات اللقيطة التى ظهرت فى مشروع القانون المسرب.
في المجتمع الأبوي، تخرج الجريدة «الحكومية» الأولى بخبر عن ما يشير عنوانه إلى أنه فساد لقيادة كبيرة، فلا تجد للخبر أثرا «رسميا»؛ تأكيدًا أو تكذيبًا قبل أن تذروه رياح الأخبار المتلاحقة. ليضم إلى علامات الاستفهام الكثيرة علامة أخرى لا أكثر.
•••
فى ثقافة المجتمع الأبوى، ما أن يغرد أحدهم خارج السرب، حتى يتنافس «فريق رافعى الأيدى» فى وصمه بكل نقيصة. حدث هذا من بعضهم مع البرادعى، وحدث مثله من الآخرين مع الشيخين راغب السرجانى ومشارى راشد العفاسى. لم يتذكر أحد من تراثنا ما قاله الشافعى (رضى الله عنه): «ما ناظرت أحدا قط إلا وتمنيت أن يجرى الله الحق على لسانه»، أو قولته الأشهر: «رأيى صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».
فى ثقافة المجتمع الأبوى، يسير الملك فى موكبه الفخم «عاريا» كما تقول القصة الشهيرة لـ Hans Christian Andersen ولا يرى «الحقيقة العارية» غير طفل برىء لم تشوهه «الثقافة السائدة» بعد.
فى ثقافة المجتمع الأبوى، كما فى الصورة الشهيرة المصاحبة (١٣ يونيو ١٩٣٦) يرفع «الجميع» إلا واحدا يده بالتحية النازية المعروفة. دون أن يفكر أى منهم لبرهة إذا ما كان عليه بالضرورة أن يكون نازيا ملتزما. واحدٌ فقط (August Landmesser) قال بتصرفه العفوى أن التفكير ممكن، وكذلك أن تكون «مختلفا». وأن «الاتباع» هكذا دون تفكير، يقودنا حتما للهاوية. حتى لو كان فى مقدمة الصفوف أدولف هتلر؛ القائد العسكرى الذى لا يُشق له غبار.
•••
وبعد..
فلعلى أضع فى سياقه التاريخى والثقافى لا أكثر ما قاله ابن خلدون فى القرن الثامن الهجرى من أن «البيعة هى العهد على الطاعة، يعاهد المبايعُ أميرَه على أن يسلم له النظر فى أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه فى شيء من ذلك…» كما لعلى أقرأ أثرَ مثل تلك ثقافة «سياسية»، فيما انتهينا إليه يوما فى كربلاء (١٠ محرم ٦١ هـ)، وما زلنا ندفع ثمنه حتى اليوم. كما كان أن دفعنا الثمن أيضا فى بغداد (١٢٥٨م)، وفى الأندلس (١٤٩٢م) وفى غيرهما مما حكاه لنا المؤرخون. بل وربما مما نشكو منه اليوم من أمر «داعش» وصويحباتها.
البعض مازال «ثقافيا» للأسف يعيش فى قرنه الثامن الهجرى، دون أن ينتبه إلى حقيقة أننا اليوم ندلف إلى النصف الثانى من العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين.
يبقى أن ربما كانت معظم الأمثلة هنا عن الحالة المصرية، ولكننا فى الحال سواء.. «وثقافتنا» واحدة. أو بالأحرى «أزمتنا» مع العصر واحدة.
لا تخدعنك الألقاب والأسماء. ففى منطقتنا، كما فى تاريخنا، «كما الخليفة كما الأمير كما الرئيس» .. لا فارق. وإن اختلفت الحُلل والقبعات والعمامات.. والأزمنة.