بلال فضل يكتب | ليته كان انقلابا
حتى لو أصبح قطاع كبير من المصريين بفعل المرار الطافح الذي يعيشونه مشغولين بسؤال «25 يناير كانت مؤامرة ولا ثورة؟»، وحتى لو علا بفعل القمع المتعاظم صوت المشغولين بسؤال «وهي 30 يونيو ثورة ولا انقلاب؟»، سيظل محجوبا عن وسائل الإعلام ـ التي تحولت إلى «أذرع» تتبارى في الرقص في حضرة الشاكم بأمر الله ـ السؤال الأكثر إلحاحا واحتياجا للإجابة الناجزة: «امتى ربنا يتوب على المصريين من الغُلب اللي عايشين فيه؟».
لعلك، إذا نظرت للمشهد المصري من خارجه، تظن أن حرص الكثير من المصريين على تعريف ما جرى في 25 كانون يناير/يناير و30 حزيران/يونيو، ليس إلا رغبة في ممارسة التفكير العلمي من أجل تحليل ما جرى في البلاد للإستفادة من دروسه في قادم الأيام، لكنك إن قضيت بعض الوقت في متابعة المناقشات على وسائل «التشاجر» الإجتماعي، لأدركت أنها تهدف أكثر إلى ممارسة التصبيع الكلامي والتنابز بالثورات واستعراض عضلات المواقف، لعل ذلك يساعد الجميع على الهروب من حقيقة استقرارنا جميعا في قاع بلاعة دموية كريهة، لن يؤدي التحرك فيها بعنف وعصبية إلا إلى المزيد من «الدحدرة» في قاعها السحيق.
بعد الأزمة التي حدثت لمسلسلي «أهل اسكندرية» قبيل شهر رمضان الماضي، كنت أسير مع صديقين في شارع قريب من بيتي في القاهرة نطرطش على بعضنا البعض ما مسّنا من «لغوب» الحياة، حين توقف أمامنا موتوسيكل يقوده رجل يمكن وصفه بأنه «طلعان دينه بزيادة عن المعدلات العادية»، ودون سلام ولا فتح كلام، نظر إليّ زاغرا وسألني بصوت مُفعم بجرّ الشّكَل «هه بقى ثورة ولا انقلاب؟»، بادره صديق مشاغبا «ثورة ثورة حتى النصر»، وأضاف الآخر ساخرا «انت بقى من بتوع الإنقلاب يترنح؟»، فلم يلتفت حتى نحوهما وأعاد السؤال بنبرة أشد حدة «هاه.. طلعت ثورة ولا انقلاب؟»، قلت مجاريا عبث الموقف «ثورة بس بتترنح»، فلم يبتسم وأعاد طرح السؤال ثالثة، فقلت «هي ثورة بس اتقلِّبت زي اللي قبلها»، قفز الرجل من الموتوسيكل فتحفزنا لاشتباك تغلب كثرتنا فيه شجاعته، لكنني فوجئت به يسلم علينا بحرارة شديدة وهو يهلل قائلا «ينصر دينك.. هو بختنا كده دكر.. كل ثورة نعملها لازم تتقلب»، قبل أن يدير الموتوسيكل ويبتعد كأنه لقى «لقيّة» تعينه على توصيف ما جرى، أو ربما تخفف عنه ندم مشاركته في التمرد على حكم سيئ الذكر محمد مرسي.
إذا كنت ممن يرسلون إلي أحيانا بسؤال أخينا راكب الموتوسيكل «ثورة بقى ولّا انقلاب»، رغبة في معرفة موقفي أو «غتاتة» والسلام، فدعني أقل لك أنني لست من الذين يحددون مواقفهم بناء على ما يتعرضون له من خسائر كلها بحمد الله «جاءت في الريش»، ولا تساوي ساعة قهر في معتقل، أو دقيقة حزن على شهيد أو مفقود، سأظل فخورا بأنني شاركت في 25 كانون الثاني/يناير و30 حزيران/يونيو بقلمي وصوتي اللذين لا أملك غيرهما، ومثلما قاومت بهما منذ مليونية النهضة اللعينة سعي جماعة الإخوان لإختطاف 25 كانون الثاني/يناير، قاومت بهما منذ لحظة التفويض اللعينة سعي عبد الفتاح السيسي لاختطاف 30 حزيران/يونيو التي خرج الناس فيها مطالبين بانتخابات رئاسية مبكرة، ومثلما طالبت بمحاكمة مرسي عن مسؤوليته السياسية في قتل المصريين، طالبت بمحاكمة السيسي بنفس التهمة بعد مذبحة المنصة وبعد مذبحة رابعة، وكل ذلك في مقالات منشورة ما زالت موجودة في أرشيف صحيفة «الشروق»، ولذلك كله لا أدعي لنفسي علما بالغيب يجعلها تبني مواقفها على الخوف مما هو قادم، ولا أعرف عنها جهلا يتصور أن الثورات يجدي معها الندم على ما مضى.
أعلم أن عددا متزايدا من ثوار 25 كانون الثاني/يناير الساخطين على ما يجري من ظلم وقمع وهرتلة باتوا يستخدمون تعبير «الإنقلاب العسكري» لتوصيف ما يجري في البلاد منذ تولي السيسي لرئاستها، وما يميز هؤلاء عن أنصار جماعة الإخوان أنهم لا يباتون كل ليلة يُمنّون أنفسهم وأصدقاءهم بانقلاب عسكري مضاد يطيح بالسيسي الذي انتقلوا دون خجل من مرحلة التبشير بصلاحه وتقواه إلى مرحلة الحديث عن أصوله اليهودية المزعومة.
ومع أن رائحة الواقع البرازي لن تختلف لو لطّفتَ وصفه، إلا أنني شخصيا لا أحب أن أخدع نفسي بوصف ما يجري بأنه «انقلاب عسكري»، وأقول لمن يصفه بذلك: ليته كان انقلابا، إذ لربما أصبح ثمن انعداله أقل فداحة ودموية، وأرى أن محاولة لتغيير واقعنا مكتوب عليها بالفشل إذا لم تبدأ بإدراك أن السلطة التي تحكم مصر اليوم سلطة مدعومة برضا شعبي جارف، لست محتاجا إلى استطلاعات رأي لتأكيده، فقد رأيته وسمعته وعشته مع أغلب من أعرفهم، ممن اختلفت طبقاتهم وخلفياتهم الثقافية والإجتماعية والمادية لكنهم اجتمعوا على تبرير القتل الجماعي وقمع الحريات وتسليم البلاد لعبد الفتاح السيسي لكي يفعل بها ما يشاء، قبل حتى أن يخيم شبح داعش على المنطقة، وتزداد كآبة صورة الإقتتال الأهلي في ليبيا خلال الأشهر الماضية، فما بالك بموقفهم بعد أن جرى كل ذلك؟
تريد أن تتحدث عن الشعب البريء الذي خدعه الإعلام المتآمر، حقك، لكن من قال أن أي كلام ـ مهما كان محبا أو صادقا ـ يمكن أن يعفي شعبا من تحمل مسؤوليات انحيازاته غير الإنسانية، خاصة وهو يعيش في عصر أصبح البحث فيه عن الحقيقة متاحا لمن أراد. تريد أن تراهن على أن استمرار فشل السيسي سيؤدي إلى انفجار يفيق بعده الناس من وهم البطل المخلص، لا ألومك خاصة أن الرجل «مش مقصر خالص في الفشل»، لكن من قال لك أن أي انفجار قادم سيستثني أحدا من هوله؟ تريد ألا «تبدأ الحكاية من أولا»، لتقرر بدءها من ثالثا أو «رابعة»، فتغفل جرائم مبارك التي قادت إلى 25 كانون الثاني/يناير، وتتجاوز عن خيانة الإخوان للثورة التي قادت إلى خيانة كثير من الثوريين لإنسانيتهم، وماله، عيش يا برنس، لكن من قال لك أن نسيان الأسباب سيجعل لعنك للنتائج كافيا لإنقاذك؟
ببساطة، أطلق أي تسمية على 25 كانون الثاني/يناير أو 30 حزيران/يونيو، العنهما معا أو العن ما شئت منهما، لن يغير ذلك من حقيقة بسيطة يتناساها الذين استحوذوا على مقاليد الأمور، هي أن الطريقة الوحيدة لكي تنهي ثورة إلى الأبد، أن تنهي كل الأوضاع التي أدت لاندلاعها من قبل، وإلا فإنك ستخلق ثورة أعنف وأقسى، ستكون أنت ربما أول أهدافها. تريد أن تتجاهل كل ذلك، سيكون ذلك مريحا نفسيا بالتأكيد، لكنه لن ينفي حقيقة وجودك في البلاعة، ولن يمنعني من نصحك ألا تقوم بأي حركات عنيفة لأن ذراعك من الممكن أن يؤدي إلى انهيار يقفل منفذ هواء يمكن أن يبقيك وغيرك على قيد الحياة.
وفي ذلك كله قالها محمد سعد فأوجز وأنجز: «ربنا يعدي الستين سبعين سنة دول على خير».