مجموعة سعودي القانونية

وائل عبدالفتاح يكتب | لهذا يحتاجون إلى هيكل

وائل-عبد-الفتاح

السيسى سأل الأستاذ هيكل: أين اختفيت؟ ما كل هذه الغيبة؟ هيكل العائد من إجازة روتينية وانشغالات خاصة قال للرئيس: أنا متابع (وهذه غريزة الصحافة، أقوى غرائزه).. وشرح أيضا: «أعرف دورى وموقعى ومسافتى من الحكم.. منذ آخر منصب لى». هذا ما رواه هيكل فى حوار تليفزيونى، مؤكدا أن هذه دولة تبحث عن آلهتها أو كهنتها، أو تتصور أن هناك سرًّا ما يدير هذه الدولة/ مهما اختلف الزمن والتغيرات والبشر والعقل والمزاج.. دولة تتخيل نفسها خالدة أو يتصور الجالسون على مقاعدها العالية أن لها موديلا واحدا يضمن لهم الخلود ولماكينتها الدوران. وهيكل ليس وحده.. الدولة استعادت كمال الجنزورى أحد الآلهة الباقين على قيد الحياة إلى الجهاز البيروقراطى فى أكثر من موقع آخرها (لجنة الانتخابات بصحبة مالكة مفاتيح أنابيب الدعم الخارجى، وصاحبة الحرب الشهيرة باسمها فايزة أبو النجا). وهذه الاستدعاءات تقول لنا باختصار إن هذه دولة تتصور أن البقاء يرتبط بأسرار الكهنة الذين رغم خبراتهم أو مكانتهم المعروفة فى مجالاتهم فإنهم تُروس فى ماكينة دولة تُحتضَر وتعانى منذ خمسين سنة على الأقل، أو منذ آخر خطة خمسية حققت نموا فى عهد عبد الناصر. وتقول أيضا إن السيسى ينفرد عن غيره من الحكام السابقين (وهو استكمال للسلالة..) بأنه يريد أن يحكم بالجهاز البيروقراطى (ولهذا استدعت التماسيح من مكامنها فى الظل)، معلنا العداء للسياسة (التى تعنى فى ما تعنى عدم احتكار الحقيقة وتداول السلطة والانفتاح على خيارات مفتوحة… إلى آخر ما يمكن أن نراه فى مجتمعات مجالها السياسى لا يتعرض للإغلاق الدائم).

ولهذا فمن الطبيعى وفق هذه المفاهيم والعقليات أن يتحدث أصحاب القرار اليوم كأن «الدولة..» هى موديل واحد يعرفونه ويحفظون أسراره فى صناديقهم السوداء.

وهذا يعنى بالنسبة إليهم أن الدولة هى «الجهاز البيروقراطى..» ولا شىء غيره، بينما الأجهزة السياسية هى أصابع الحاكم (ولهذا تسمع مع استدعاء آلهة البيروقراطية وكهنة الحكام نداءات تطالب بتعديل الدستور الذى أتى بالسيسى إلى الحكم، لكى يكون البرمان عونا للرئيس).. وكلُّ سياسى خائنٌ ما دام لم يحصل على ختم الصلاحية من الحاكم أو الدائرة المقربة منه.

والدولة التى أسسها الضباط الأحرار خوفا من الشعب على السياسيين ما زالت مستمرة، رغم أنها فى امتداداتها فشلت وانتهت إلى مصيرها مع مبارك «مافيا» كاملة الأوصاف فى الجمع بين الاستبداد والفساد. ما زالت مستمرة فى العقول، ويتخيلون أنها يمكن أن تستمر فى الواقع بنفس احتضارها وانتظارات الناس وآمالهم، ثم خيبتهم وصعود نخبة القوارض والحيتان لتلتهم وحدها فرص الحياة السعيدة لسكان هذه البلاد. يستدعى السيسى هيكل ورفاقه من آلهة الدولة وكهنتها، كما استدعاهم حكام يشعرون بالضيق منهم بعد قليل، فهؤلاء يحفظون الدولة فى لحظة انقضت، ومع نخبة ذهبت، وفى زمن لم يعد موجودا. لهذا يظهر هيكل مع الغربال الجديد لكل حاكم.. ثم يختفى مصحوبا بمعارك «رجال المرحلة» بعد أن شرب الحاكم سر الدولة. وأدارها بما يطيل فترة الاحتضار. وتحضرنى هنا حكاية حكاها لى الأستاذ حسين عبد الرازق رئيس تحرير صحيفة «الأهالى» فى سنوات عزها، وأحد قيادات حزب التجمع الذى كان ضمن اعتقالات «٥ سبتمبر ١٩٨١» التى اعتقل فيها السادات قبل أسابيع من اغتياله ١٥٠٠ من معارضيه كان بينهم هيكل. الأستاذ حسين حكى أن هيكل اختفى فى أحد الأيام من المعتقل، وشوهد وهو يهبط من سيارة رسمية، وعندما سأل المعتقلون الضباط المحيطين بهم تلقوا إجابات فهموا منها أنها زيارة مهمة، وسارت التلميحات إلى أنها لقاء مع الرئيس مبارك، وهو ما لم يعلنه هيكل أبدا.. لكنها حكاية حسين عبد الرازق خلال رحلة جمعتنا من القاهرة إلى كردستان العراق (٢٠٠٨). أى أن كل حاكم جديد يستدعى هيكل لا السيسى وحده، وهذا لا يعنى فعلا أن السيسى يقرأ من كتاب مبارك، أو أن التاريخ يعيد نفسه، أو أن نظام مبارك سيعود..

لا أعنيه فعلا، ولا أقصد من ملاحظاتى السابقة عن استدعاء الكهنة والآلهة.. ما يعنينى أن هذه «دولة» ترفض الرحيل رغم احتضارها وتحول استمرارها إلى «عقيدة» بمقولات ونصوص غائمة «سنعيد بناء الدولة..»، كأنه لا دولة إلا دولتهم.. دولة الوصاية والتسلط واحتقار الفرد ونهب الثروات باسم الحفاظ عليها.. كأن لا دولة إلا دولة حكم المتسلط.

كأن لا دولة دون وصاية وتسلط… وحكم البيروقراطية البغيض.

نحلم بدولة ضد الوصاية والتسلط…

هذا كل ما فى الأمر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الدستور الاصلى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *