عمار على حسن يكتب | الأدب والنبوءة السياسية (2- 2)
وهناك العديد من الأعمال الأدبية، العربية والأجنبية، التى تبرهن على وظيفة الأدب فى إثراء الخيال الاجتماعى والسياسى، من أمثال روايتى الأديب الفرنسى رابليه: «جورجونتوا» و«بانتاجيوريل»، ورواية الأديب البريطانى جوناثان سويفت «رحلات جاليفر»، ومسرحيتى شكسبير «الليلة الثانية عشرة»، و«حلم ليلة صيف»، ومسرحية توفيق الحكيم «رحلة إلى الغد»، ورواية نجيب محفوظ «رحلة ابن فطومة»، ومسرحيات يوسف إدريس «الفرافير» و«الجنس الثالث» و«المهزلة الأرضية».
والأوضح أو الأبرز فى هذا الصدد ثلاث روايات أولها رواية ألدوس هكسلى «عالم جديد شجاع» Brave New World، التى انتهى من كتابتها سنة 1931 ونشرت فى السنة التى تلتها، وهى تدور فى مجتمع شديد التحرر، ويبدى فيها تخوفه من تحكم العلم فى حياة الناس، حيث تخيل مدينة يقطنها العلماء، وتهجرها المشاعر والجمال، ويستعين أهلها بالعلم فى تلبية كل احتياجاتهم ورغباتهم، فيستغنون عن الزواج، ويكونون الأجنة فى قوارير بدلاً من أن تحملها أرحام الأمهات، ويكون الشاغل الوحيد لهم هو الاستمتاع بالجنس، ولا يهزهم الموت، بل يتعاملون معه بمشاعر محايدة وهدوء يغيظ وكأنهم آلات صماء.
وينقسم المجتمع إلى عدة مجموعات، كل مجموعة أو طبقة تعد إعداداً خاصاً يلائم تكوينها الجسمانى واستعدادها العقلى، أو يتم تربيتها فى بيئة شبيهة بالمصنع، حيث يتم تلقين أفرادها طوال الوقت، حتى وهم يغطون فى سبات عميق، كل الأفكار التى يجب أن يؤمنوا بها. ويعيش الفرد فى هذا المجتمع المتخيل فى غير كبد ولا مشقة فى تدبير احتياجاته الجسدية، وهو إن أراد شيئاً فلن يبذل جهداً فى سبيل الوصول إليه، إنما يكفيه أن يضغط على زر أو يحرك مقبضاً حتى يجد أمامه ما طلبه. وإن شعر أى فرد بأن هناك ما ينغص عليه عيشه، فيمكنه أن يبحث عن السلوى فى تعاطى المخدرات، وبذا فإن هذا المجتمع به تقنية للتناسل واللذة الجنسية، وتقنية لتحوير العقل والجسد من خلال التلقين أثناء النوم وجراحات التجميل وأقراص تمنح السعادة وتجدد الشباب، وتقنية للرفاهية والتسلية التى تشبع الحواس الخمس. لكن كل هذا لا يجعل الحياة مقبولة، وخالية من الملل، بل يعانى الإنسان فيها من ظمأ روحى شديد.
وثانيها رواية هـ. ج. ولز «شكل الأشياء فى المستقبل» التى صدرت سنة 1933 وحملت نبوءة بوقوع حرب فى الأربعينات، يتلوها حمى شديدة فى الخمسينات تقتل نصف سكان العالم، ولا يعود التماسك إلى العالم إلا فى منتصف الستينات بإيجاد «لجنة التحكم فى الجو والبحر»، وهى مجموعة من الناس تسعى لخلق «دولة عالمية»، لكن هذا الحلم لن يتحقق إلا بعد 56 عاماً أخرى يعيش فيها الناس موجوعين من الإرهاب والكبت. وعلى لسان أحد شخصيات الرواية يصف «ولز» ما يتوقع أن تكون عليه الحياة سنة 2100، حيث يمكن للناس أن يفعلوا ما يشاءون، من دون قيود ولا كوابح، لا يحكمهم إلا الاحترام اللائق للعقول، بل يتنبأ أنه بتربية سليمة للعقل والجسم وحماية مضبوطة وصارمة للملكية والمال العام بطريقة لم يكن بوسع الاشتراكيين الأقحاح أن يصدقوها.
وثالثها رواية جورج أوريل «1948» التى رأت النور سنة 1949 وتنبأ فيها بسيطرة قوة كبيرة على العالم تتقاسم مساحته، وتحول البشر إلى مجرد أرقام فى «جمهورية الأخ الكبير» الشمولية، التى تعد عليهم أنفاسهم، بعد أن تتحول القيم الإنسانية النبيلة إلى أمور تافهة، وتصبح الحياة خالية من العواطف والأحلام، ويتصرف البشر كأنهم آلات صماء. وتدور أحدث الرواية التى تخيلها «أوريل» فى مدينة لندن، وبطلها صحفى يعمل بـ«وزارة الحقيقة» يخضع لمراقبة لا إرادية من رجال الشرطة والجيران، رغم أنه مواطن شريف، ويُحرم من أن يلتقى بمن يحب، ويعرف أن السلطات تغير باستمرار المعلومات والبيانات الموثقة عن الأفراد لتتماشى مع رغبة ومصلحة الحزب المسيطر، وإرادة الحكومة التى يقودها الأخ الأكبر.
مثل هذه الروايات الثلاث، وغيرها، فتحت أمام الأذهان نافذة عريضة لتأمل المستقبل الاجتماعى والسياسى، وكانت مصدر إلهام للسياسيين أنفسهم، وجعلت العلماء والمفكرين يعملون فى سبيل تعظيم الفوائد وتجنب الخسائر التى حملتها تلك النبوءات.