فهمى هويدى يكتب | معنى أن تسقط صنعاء تحت أعين الجميع
هل ما يحدث فى اليمن الآن مقدمة لانقلاب منتظر فى خرائط الجزيرة العربية؟
(1)
أتحدث عن زحف الحوثيين على صنعاء، واستيلائهم عليها دون أى مقاومة، وسط دهشة وحيرة الجميع، ذلك أنه طوال سنوات الصراع بين السلطة والحوثيين الممتد منذ نحو عشر سنوات فإن صنعاء ظلت تعد «خطا أحمر». إلا أن المفاجأة حدثت يوم 21 سبتمبر الحالى حين انقض المسلحون الحوثيون على العاصمة بعد حصارها، فسيطروا بصورة شبه كاملة على مفاصلها ومراكزها الحيوية، الأمر الذى أحدث دويا تعددت أصداؤه فى الفضاء العربى. فما جرى لم يكن انقلابا لأن الحوثيين استولوا على المدينة ولم يستولوا على السلطة، رغم أن الطريق كان مفتوحا أمامهم لأجل ذلك. إذ لم يكن القصر الجمهورى عصيا عليهم، ولكنهم لم يطرحوا أنفسهم كسلطة بديلة. وكما أن الثورة اليمنية أسقطت الرئيس السابق على عبدالله صالح، لكنها أبقت عليه فى صنعاء، حيث ظل يمارس أنشطته على الصعيدين القبلى والسياسى، فإن اجتياح الحوثيين أسقط السلطة فى صنعاء، لكنه أبقى على الرئيس عبدربه هادى منصور، فأصبح القرار بأيديهم والرمز فى مكتبه ومنصبه.
لأنه لم يكن انقلابا فقد اختلفت الروايات فى تقييمه. ولعب الإعلام اللبنانى دورا مؤثرا فى هذا الصدد، ذلك أن استيلاء الحوثيين على صنعاء أعاد إلى الأذهان تجربة حزب الله فى بيروت ودور الحزب فى الحياة السياسية اللبنانية، ولأن الحوثيين موالون لإيران وللمذهب الجعفرى فقد تحدث البعض عن تمدد النفوذ الإيرانى، ووصوله إلى مضيق باب المندب عنق الزجاجة للبحر الأحمر، الذى يتحكم فى الطرق التجارية بين الشرق والغرب، ونبه آخرون إلى أن أصابع إيران لم تعد مقصورة على بغداد وسوريا وبيروت، ولكنها أصبحت حاضرة فى صنعاء، وفى ظهر المملكة العربية السعودية. ومنهم من قال إنه إذا كانت إيران تتقاسم النفوذ مع المملكة فى بيروت، فإن المشهد أصبح مكررا فى صنعاء. وأيد تلك الشائعات أن نائب طهران فى مجلس الشورى الإيرانى على رضا راذكانى نقل عنه قوله إن الثورة الإسلامية وجدت صداها فى صنعاء، إضافة إلى ثلاث عواصم عربية أخرى، هى بغداد ودمشق وبيروت. وكان واضحا ترحيب المنابر الإعلامية الشيعية بما حدث فى اليمن، حيث احتفت باحتلال صنعاء، واعتبرته من النجاحات التى حققتها الثورة الإسلامية المنحازة إلى المستضعفين والمهمشين.
وفى حين تحدث البعض عن ظهور إرهاصات نظام ولاية الفقيه فى اليمن، ذهب آخرون إلى أن الحوثيين المؤيدين لفكرة الإمامة بصدد استعادة حكم أسرة حميد الدين، الذى أطاحت به الثورة فى ستينيات القرن الماضى. الأمر الذى يفتح الأبواب لانقلاب سياسى منتظر فى الجزيرة العربية.
(2)
أغلب تلك التحليلات كانت مشرقية، وليست مبنية على قراءة دقيقة للواقع اليمنى. أعنى أن أصحابها انطلقوا فيها من خبراتهم الخاصة فى بلاد المشرق ومن رصد التفاعلات الحاصلة فى دول الربيع العربى، وليس اعتمادا على الاحاطة بخصوصية الواقع اليمنى. إذ ليس صحيحا أن الصراع فى اليمن مذهبى بالأساس، وليس كل الزيود موالين لإيران، وفكرة ولاية الفقيه لا مكان لها فى اليمن، وطريق طهران إلى باب المندب محفوف بالألغام التى قد تستدرج إيران إلى ما لا تحبه ولا يخطر لها على بال.
من البداية كان الصراع سياسيا بين الحوثيين المتمركزين فى صعدة بالشمال وبين السلطة فى صنعاء. الحوثيون كانوا يعانون من التهميش وإهمال السلطة لهم، كما كانت لهم اعتراضاتهم على سياسة حكومة على عبدالله صالح الموالية للولايات المتحدة الأمريكية. ولكن النظام فى مواجهتهم لجأ إلى الورقة المذهبية واتهامهم بأنهم يسعون إلى إعادة حكم الإمامة، ودخل معهم فى ست مواجهات مسلحة خلفت تأثرات لدى الحوثيين. وخلال تلك المواجهات كان الخطاب السياسى اليمنى يوجه أصابع الاتهام لطهران بدعم الحوثيين، وبالتدخل فى الشأن الداخلى اليمنى. ومن الأدلة التى تؤيد تراجع الدور المذهبى. وتقدم العامل السياسى أن الرئيس السابق على عبدالله صالح الذى ساعدهم فى البداية ثم خاض ضدهم حروبه الست أصبح الآن حليفا لهم. ودوره هو وأعوانه فى تسليم صنعاء للحوثيين بلا مقاومة، والاستعانة بهم فى تصفية حسابه مع خصومه الذين أسهموا فى إسقاط نظامه.
إن الذين يتحدثون عن التفسير الطائفى والمذهبى للتحول الراهن فى اليمن يستندون إلى حقيقة أن سكان اليمن يتوزعون على المذهب الشافعى فى الجنوب والزيدى فى الشمال. والزيود الذين يخرج منهم الحوثيون (نسبة لزيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب ــ القرن الثانى الهجرى) ليسوا من الشيعة الاثنى عشرية أصلا وأن تأثر بعضهم بهم. والعبارة الشائعة عن الزيود فى أوساط أهل العلم أنهم معتزلة فى الأصول، وأصناف فى الفروع. أما توجههم الأساسى فقد كان سياسيا يدعو إلى الخروج على الحكام الظلمة، وليس عقائديا يشتبك مع الفرق والمذاهب الأخرى، وقد تطور فكرهم خلال القرون التى خلت بحيث ظهرت منهم فرقة أقرب إلى أهل السنة، كما ظهرت مجموعة أخرى اقتربت من الشيعة الاثنى عشرية، وهؤلاء الأخيرة علا صوتهم وانتعشت أنشطتهم أكثر بعد الثورة الإسلامية فى إيران. ومن الواضح أن أطرافا معنية فى إيران تفاعلت معهم وساندتهم بمختلف السبل.
إذا قلنا إن الحوثيين مجرد مجموعة نشطة من الزيود ولا يشكلون كل أتباع المذهب، فلا ينبغى أن نغفل حقيقة أخرى مهمة هى أن الزيود فى جملتهم لا يشكلون أغلبية فى اليمن الذى يبلغ عدد سكانه 30 مليونا، ولكنهم يمثلون ثلث السكان فقط. فى حين أن الشوافع يمثلون الثلثين. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الحديث عن دخول اليمن فى ولاية الفقيه أو سقوط صنعاء بيد طهران، يبدو أمرا مبالغا فيه إلى حد كبير، فيه من الأوهام والتمنيات الشىء الكثير.
(3)
الحقيقة الأخرى التى ينبغى ألا تغيب عن الأذهان فى تحليل ما جرى فى صنعاء أن اليمن مجتمع قبلى بالدرجة الأولى، القبلية فيه أهم وأكثر منعة وتماسكا من الدولة. ثم إنه مجتمع مسلح، وإذا كانت «الجنبية» (الخنجر المعقوف) جزءا من المظهر الخارجى لليمنى، إلا أنها أصبحت الآن ضمن الديكور الخارجى للشخصية اليمنية، مع ذلك فانها ظلت رمزا يعلن عن حقيقة أن اليمنى لابد أن يكون مسلحا. وسلاحه الحقيقى مخزن فى بيته. ولكل أسرة حصتها من السلاح والذخيرة. وإذا كانت تلك خصوصية البيئة الاجتماعية، فإن للجغرافيا أيضا خصوصيتها. ذلك أننا بإزاء تضاريس جبلية يتعذر السيطرة عليها، ولذلك ظلت اليمن طوال تاريخها عصية على أى قوة خارجية من العثمانيين إلى الإنجليز. وليس غائبا عن الأذهان أن تنظيم القاعدة له حضوره فى أبين وبعض المحافظات اليمنية الأخرى. وقد تعذر القضاء عليه طوال السنوات العشر الماضية رغم استهدافه خلال تلك الفترة من جانب أجهزة الاستخبارات الأمريكية وطائراتها التى لم تتوقف عن التحليق فى سماء اليمن.
أغلب الظن أن تلك الخرائط المعقدة المجتمعية والجغرافية، كانت وراء قرار الحوثيين السيطرة على مراكز ومفاصل السلطة فى صنعاء، مع الابقاء على رئاسة الجمهورية وهيكل السلطة كما هو. حيث اكتفوا فى حملتهم بأن أثبتوا حضورا فى دائرة القرار السياسى تجاوزوا به حالة التهميش والإقصاء التى عانوا منها.
ثمة اعتبار إضافى لا يمكن تجاهله فى أى حديث عن اليمن وتفاعلاته السياسية، يتمثل فى موقف السعودية، التى هى أول طرف خارجى يتلقى الأصداء فى صنعاء. ذلك إن التداخل بين حسابات البلدين على مختلف الأصعدة من القوة والعمق بحيث يتعذر تجاهله ى أى تطور تشهده البلاد. وقد كان واضحا فى التطورات الأخيرة أن المملكة تعاملت مع ما حدث فى اليمن بهدوء شديد ــ فى العلن على الأقل. وتجلى ذلك فى ترحيبها ومباركتها لاتفاق «السلم والشاركة الوطنية» الذى تم توقيعه يوم 21/9 بين مختلف المكونات السياسية فى اليمن بمن فيهم الحوثيون. كما أنها تعاملت بنفس الدرجة من الهدوء مع التطورات التى أعقبت توقيع الاتفاق، حيث اكتفت بالتصريحات التى أدانت تصرفات الحوثيين، وتغولهم فى صنعاء بعد التوقيع. إلا أن ذلك ليس كل شىء بطبيعة الحال، لأن المملكة ما كان لها أن تتصرف على ذلك النحو إزاء تحول بتلك الجسامة والأهمية فى اليمن ألا وهى على ثقة بأن الزمام لم يفلت بعد، وأن الأمر لا يزال تحت السيطرة من وجهة نظر الرياض على الأقل. وربما رأت أن تنتظر نتيجة الصراع بين الحوثيين وبين حزب الإصلاح الإخوانى، وبين عناصر القاعدة وبين الحوثيين. وفى كل الأحوال فإنها واثقة من أن دخول إيران على الخط ــ إذا حدث ــ فإنه سوف يستنزفها ولن تخرج سالمة من اليمن.
(4)
إننا نتحدث كثيرا عن الانهيار الذى حدث للسلطة وأدى إلى احتلال صنعاء واستسلامها دون أى مقاومة. لكننا لم نخضع للتحليل حالة القابلية للانهيار لدى السلطة. ذلك أن صنعاء لم تسقط بسبب قوة الحوثيين وإنما بسبب الهشاشة والضعف فى جانب السلطة، التى عشش فيها الفساد والوهن، حتى عجزت عن أن تنجز شيئا ذا قيمة حتى من توصيات وثيقة الحوار الوطنى الشامل الذى اختتم أعماله فى أواخر يناير الماضى. ذلك ان المؤتمر الذى شارك فيه ممثلو كل القوى اليمنية (أكثر من 500 شخص) ظل أعضاؤه يتحاورون حول كل حاضر اليمن ومستقبله طوال عشرة أشهر، وبعد انفضاضه لم تحرك الحكومة ساكنا. وكل ما فعلته أنها جمدت مخرجات الحوار، ورفعت أسعار المشتقات النفطية، فأشعلت نار الغضب لدى الرأى العام. وهو ما اعتبره الحوثيون فرصة جعلتهم يطالبون بإقالة الحكومة وتنفيذ قرارات مؤتمر الحوار الوطنى، وإلغاء قرارات رفع الأسعار. وفى ظل هذه المطالب تحرك مقاتلوهم فاحتلوا عمران، وبعدها طرقوا أبواب صنعاء وحاصروها، حتى باغتوا الجميع بالاستيلاء عليها.
حين هبت رياح الربيع العربى فى عام 2011 خرج اليمنيون إلى الشوارع، وتحدوا نظام الرئيس على عبدالله صالح. وبعدما أمضوا عاما تقريبا، وهم وقوف يطالبون بإسقاط النظام، ثم خرجت المبادرة الخليجية التى نحت الرجل عن منصبه ونصبت مكانه نائبه عبدربه منصور. فى تبديل للمواقع أسقط الرجل ولم يسقط نظامه الذى لم يتغير فيه شىء. من ثم فإن أداءه ظل على سوئه الأمر الذى أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
لقد شمَّ اليمنيون رائحة الربيع، ولم يتذوقوا طعمه. من ثم فإنهم ظلوا طوال سنوات ثلاث يتعلقون بوهم ربيع لم يبلغوه بعد.