لا يزال المشهد عالقا بذاكرتى فى حضور قوى برغم مرور سنوات على رؤيتى له، وهو لم يكف عن الحضور فى خاطرى بتلك القوة الحيوية ربما لحدْسٍ غامض ظل كامنا فى «اللاوعى»، يومئ لى من طرف خفى بأن فى ذلك المشهد فلسفة حياة، سأحتاج للاتكاء عليها، لأتخذ قرارات فارقة فى لحظة فارقة، لعلها الآن حانت!
منذ سنوات عديدة رأيت ذلك المشهد بين مشاهد حروب البشر التى لا تنقطع: دبابة عملاقة تتقدم صاعدة فى غيمة من التراب والدخان على طريق جبلية، هادرة بثقلها وفولاذها ومدافعها وما تكتنزه من ذخائر فى جوفها، بينما تُسمع أصوات زخات رصاص قريبة وطلقات مدفعية فى الأفق، وعلى جانب الطريق أرض معشبة ولُجَّة ماء صغيرة، وتعلق بصرى فى هامش هذا المشهد بعصفور صغير يتقافز على الأرض، كان يمضى لحظاته فى طمأنينة مطلقة، كأن لا موت ولا حديد ولا نار تحف بموقعه، ينقر الأرض بوتيرة نشطة، ثم يتقدم من اللجة ويهبط برأسه الصغير مرتشفا بمنقاره حسوة ماء صغيرة، يرفع بعدها رأسه باتجاه السماء ليبتلع ما ارتشف، فأوقن أنه يشكر الله على نعمة الماء. ويكرر الطأطأة والحسو والشكر!
من أين هذه القوة لهذا الكائن الصغير؟ فوق الحرب وفوق الضرب وفوق ما تخفى سرائر البشر وراء الحروب؟! ظل هذا السؤال يراودنى سنينا كلما عاودنى المشهد بحضوره القوى. والآن، أستطيع أن أوجز ما توصلت إليه من محاولة للإجابة فى أن هذا العصفور أبدى هذه القوة التى لم يتقصدها لسبب بسيط واضح.. إنه يمضى مع سجيته فى الدور الذى قُدر له فى هذه الحياة، وهو يعرف بهذه السجية أنه بأدائه لهذا الدور سيكون أكثر اتساقا مع ما هو قادر عليه، مع ما يحبه، وما تحبه الحياة! أن يعيش، ويطير، ويتزاوج، يراوغ المخاطر، ويتطامن فى عشه، ويطلق أغنيته شقشقة مع هبات النسيم ولحظات الصفو!
لطالما ردَّدت تفسيرا لولعى بمعرفة وتأمل عالم الأحياء والحياة، بأن فى ثناياهما رسائل مشفرة للبشر، وطوبى لمن يلتقط الرسالة، وأتمنى أن تكون الرسالة، التى التقطتها من مشهد ذلك العصفور صحيحة، وملخصها أن تعيش دورك الأساسى والأصيل فى الحياة، أن تؤدى ما ينبغى عليك تأديته فى جوهر هذا الدور، ولعلى انتبهت إلى هذه الرسالة بهذا التفسير الآن نتيجة لما أراه من فرط عيش كثير من الناس فى بلدنا خارج أدوارهم، واعتساف أدوار خارج ما يلائم أعمق سجاياهم، والنتيجة خُسران على المستوى الفردى، وعلى مستوى المجتمع والأمة، يتساوى عندى فى هذه اللحظة من يتظاهرون فى عصبيات مهلهلة مطالبين بعودة ما كان بحسبانهم شرعية، وكأن تلك الشرعية لم ترتكب أخطاء ترقى إلى مستوى الجرائم النافية لأى شرعية، ومثلهم من يستمرئون دور المُنظِّرين والمُحرِّضين عليهم، وبين هؤلاء وأولئك جماهير ضائعة كأنما لا صنعة لها ولا زرعة، حالة من مجانية المنابذة المدنية بينما هناك حرب حقيقية لعصابات التكفير وجماعات التعصب ومؤامرات التفشيل تُشن على الأمة، ويكاد لا يواجهها فى إطار واجباته وإمكاناته، برغم أى ملاحظات على ذلك، غير الجيش والشرطة.
رأيى الذى أستخلصه من مشهد العصفور، هو أن يبحث كل منا عن دوره الجوهرى الذى يلائمه حقا فى هذه الحياة، فتنتظم وتطيب الحياة، ويعم انتظامها وطيبها على الفرد كما المجموع، وأول شروط الذهاب فى هذا السبيل، أن يتصرف كل منا فى ضوء كينونته الفردية الأصيلة، لأننى لاحظت أن التخلى عن هذه الكينونة حال الانخراط فى هوج الجموع، يحوِّل الإنسان الفرد من بشر سوى إلى ذئب فى قطيع للذئاب، أو بوق فى جوقة غوغائية، وأعتقد أن الخلل الجسيم فى الفكرة القطبية كما التنظيم الإخوانى، هو إلغاء جوهر الإسلام كدين غايته إصلاح الفرد لصلاح الحياة كلها، لاقتناص ترخيص دنيوى لإخضاع الكينونة الخاصة للبشر فى سياق تنظيمى يحكُمه الساديون، المولعون بالسلطة والتسلط، وهذا شأن كل التنظيمات السرية التى تزعم لنفسها صفة «الدينية»، ومثلها وإن بدت مختلفة، تلك التنظيمات «الدنيوية» الأيدلوجية، ومن هنا أعتقد أن التنظيمات السرية كلها بؤر للشر، وينبغى ألا يكون لها مكان على أرضنا التعبَى التى سئمت الشرور والغرور.
اتصالا بما سلف، وعلى مستواى الشخصى، أرى أن دورى فى الحياة الآن، سيخرج عن سياقه الصميم إن استمر يقارع خصوم السياسة فى هذه اللحظة الملتبسة التى يتمترس كل فرد فيها وراء حائط الهياج الجمعى، أو الصياعة الجماعية المُقنَّعة، من غلاة هذا الطرف أوذاك، بينما هناك أمور مهجورة، وعلى رأس قائمتها فى المجال الثقافى الذى أنتمى بجوهرى إلى جوهره، الثقافة العلمية وثقافة العلوم الإنسانية، وفى قلبها الأدب، وهما ليسا مجرد ترف ثقافى كما تُوهم نفسها وتوهم الناس تلك الهمجية المتفشية، فهما ركنان فى صميم بناء التفكير الجمالى والنقدى للإنسان، اللذان فى غيابهما تخرج على المجتمعات أغوال التطرف والتخلف والعدوانية تحت مسميات شتى. ومن ثم أَختارُ أن أتسق مع نفسى الأعمق التى ترتبط جوهريا بهذين اللونين الثقافيين، وهما ليسا بعيدين أبدا عن معالجة أوجاع اللحظة، فاستحضار الجمال يفضح القبح، وممارسة التفكير النقدى تطرد شياطين الامتثال والسمع والطاعة والتخشب الأيدولوجى والصبيانية اليسارية، وجميعها مما يهدد ارتقاء اللحظة فى بلادنا الآن.
يبدو اختيار العصفور لكثيرين كما لو كان مجرد العيش والرفيف والتكاثر والشدو، ولكن هذا هو سطح القصة، أما أعماقها فتكشف بأدوات العلم والعقل والحدس عن دور هائل لهذا العصفور الصغير فى حياة كوكبنا، فقياسا على نظرية «تأثير الفراشة»، التى تقول بأن رفة من جناح فراشة فى جنوب العالم يمكن أن تتضاعف ويتوالى تضاعفها حتى تُحدِث إعصارا فى شماله، يمكننا أن نتصور الأثر الهائل لرفيف جناح عصفور! كما أن العصافير لا تنهض على رومانسية العيش فقط، فهناك جوانب فى طوايا هذه الرومانسية تضطلع بمهام خطيرة الشأن كتحجيم طغيان الحشرات والآفات إن استفحلت فى الأرض. فاختيار العصفور يتضمن القتال ضد الأذى، بأدواته.
لكل ما سبق، واستجابة لنداء التغيير الصارخ داخلى، سأتوقف عن كتابة مقالى فى «الشروق» مما يعنى استقالتى من الجريدة لإحساسى أننى إن مكثت فى المكان ذاته فسوف أكرر ذات الكتابة التى زهدتها، كما أتوقف عن كتابة مقالى الشهرى فى مجلة ثقافية عربية، وقد سبق أن اعتذرت منذ أيام عن عضوية لجنة إعداد الدستور لآنذلك تشريف لا أقوى عليه، فطبيعتى الشخصية بعيدة عن النهوض بمتطلباته، فأنا لا أجيد الجدل ولا أطيق البقاء ساعة فى جلسة للنقاش، لا أجد نفسى فى أى زحام، ولا أُعطى إلا فى واحة انفرادى، أو بين مجموعة صغيرة من أصحاب العمر وأحبة السنين.
ولقد استعرت العنوان الثانى لهذا المقال من تعبيرات الأستاذ هيكل، أحد سادة الكتابة الجميلة والمُبينة فى العالم، ليس فقط لدقة إفصاحه عما أعنيه بالانصراف، ولكن أيضا للإشارة أننى أستشعر فظاعة ما حدث من هجوم غبى وحاقد ووضيع على بيته الحضارى الجميل ومكتبته الزاخرة فى قرية برقاش، وأستبشع محاولة البعض تزييف ماحدث باعتباره عدوانا جنائيا للبلطجية، وكأن التحريض الإخوانى لم يوفر مناخا لهذا العدوان السقيم وتحريك شياطين تنفيذه، وكأن البلطجية صارت تعنيهم الكتب والوثائق واللوحات فجأة! وقد عنَّ لى أن أكتب عن هذا الجحود، وذلك التدليس، لكن أوان الانصراف أدركنى لأمضى، فأمضى، مؤمنا أن هذا الوطن ليس أمامه إلا عبور هذا المستنقع، واقتحام هذه النيران المفروضة عليه، فالعصافير أيضا تقاتل لو اضطرت لذلك، دفاعا عن نفسها، وأعشاشها، وزقزقات المستقبل.
المصدر: الشروق