بلال فضل يكتب | آن الأوان ترجعي يا دولة الجواسيس (الحلقة الثانية)
كيف يمكن أن ينتصر نظام يخاف من نكتة؟
سيقول السفهاء من أنصار الدولة الباطشة: وما هي المشكلة في أن يكتب المواطن فاروق راجي تقريرا في شقيقه علي، إذا كان ذلك بهدف الحفاظ على الدولة والثورة ومكتسبات الإشتراكية التي اتهمه بمعاداتها؟، وهل ستتأخر أنت في الإبلاغ عن أقرب الناس إليك إذا رأيته يتخابر مع أعداء الوطن؟، وما هي المشكلة في أن يكتب كل مواطن صالح سواءً كان مثقفا أو بسيطا تقارير سرية يرفعها إلى أعلى رأس في الدولة إذا كان ذلك بهدف الصالح العام؟
لا يدرك هؤلاء أن إيمانهم بهذا المنطق الذي اتخذه من قبلهم سبيلا لراحة الضمائر هو أكبر طريق نحو هدم الدولة ـ بفرض وجودها أصلا في حالتنا ـ فالدولة الحديثة لا تحتاج إلى أن يتحول كل مواطن إلى مخبر من أجل الحفاظ عليها، بل تمتلك من أجل حماية مواطنيها أجهزة أمنية مدربة وفعالة وكفئة، وفي نفس الوقت لا تترك هذه الأجهزة تسرح وتمرح على هواها، بل تكفل وجود آليات رقابية تقيّم أداءها وتطوره وتحاسبها على انحرافها وتقصيرها إن حدثا، أما الدول المتخلفة وإن اختبأت خلف قشرة الدولة الحديثة، فهي بزعم الحفاظ على الأمن تحول الأجهزة الأمنية إلى دولة داخل الدولة، ثم يتحول كل جهاز من هذه الأجهزة حسب قربه من قائد الدولة إلى دولة أكثر قوة أو بطشا، وتحت شعارات حماية الوطن من الأعداء والحفاظ على استقلاله ووحدته.
بالطبع تعمل كل هذه الأجهزة دون ضابط ولا رابط، فتخلق بين عموم المواطنين يقينا أن موقعك داخل الدولة يحدده رضا أجهزة الأمن عنك وعلاقتك الوثيقة بأي من مسئوليها أو منتسبيها، وهنا تتراجع أهمية الكفاءة والمعرفة والإجتهاد، لصالح العلاقات والوسايط والمحسوبيات، ولذلك لا يجد المواطن غضاضة في أن ينسى دوره الرئيسي في الموقع الذي يعمل فيه، ليلعب دور المخبر على من حوله أيا كانوا، دون أن يشعر بأدنى ذنب، لأنه يحمي الوطن، معتبرا أن ما يقدمه له الوطن من مكاسب وامتيازات لقاء هذا الدور، ليس سوى رد جميل له لكي يدفعه لتجويد عمله أكثر، ولأن هذا المواطن في البدء والمنتهى بشر له أخطاؤه وتحيزاته، ولأنه لا يوجد من يراقبه ولا يحاسبه، لا هو ولا المسئولون عنه في الأجهزة الأمنية، فإن مهمته الوطنية المفترضة تتحول غالبا إلى وسيلة لتصفية الحسابات وخلق التربيطات، لكن ذلك لا يلفت انتباه أحد من المسئولين عنه، لأن ما يهمهم أكثر هو أن يثبت ولاءه بالانتظام في تسليم التقارير، وكلما كانت هذه التقارير عن أقرب الناس إليه من أهل وزملاء وجيران وأصدقاء كلما أثبت ولاءه أكثر فتوجب ارضاءه أكثر.
ضع هذا كله في بالك ونحن نواصل تصفحنا لكتاب الدكتور حمادة حسني (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري) وتعال نتأمل المزيد من عناوين تقارير أعضاء التنظيم الطليعي السري التي كانت تصل إلى مكتب جمال عبدالناصر شخصيا، وضع نفسك مكان عبدالناصر وتخيل كيف يمكن أن يتصرف رئيس تصله تقارير من كبار مثقفي البلاد ومن مغموريها أيضا، عن كل شيئ يجري في البلاد مهما كان تافها، وعن كل شخص له نشاط من أي نوع سواءً كان مشهورا أو مغمورا، مواليا له أو معارضا أو محايدا مجهول الموقف، خذ عندك على سبيل المثال هذه التقارير التي تتركز في الفترة ما بين عامي 1965 وما قبل هزيمة خمسة يونيو 1967:
مذكرة حول نشاط أحمد سعيد مدير صوت العرب (كونه من أهم أصوات نظام عبدالناصر لم يمنعه من التجسس عليه) ـ مذكرة عن موضوع إشكال عبدالحليم حافظ مع أم كلثوم بخصوص حفلة 23 يوليو 1965 ـ مذكرة بشأن نشاط الإخوان بالدقهلية ـ مذكرة بشأن نشاط الإخوان بأسيوط ـ مذكرة بشأن نشاط الشيوعيين بالدقهلية ـ مذكرة حول سلوك مدكور أبو العز محافظ أسوان من حسين أبو الحسن جاد وسعد الدين محمد مدني عضوا التنظيم ـ مذكرة عن نشاط الإخوان في بعض قرى بني سويف ـ مذكرة عن نشاط المدرسين المصريين من الإخوان الموجودين في قطر ـ مذكرة من محمود العالم عن الهتاف العدائي لمرضى مستشفى الصدر بالجيزة ـ مذكرة معلومات عن جماعة الخروج في سبيل الله تنتمي إلى جماعة الإخوان مقدمة من محمود سامي العفيفي ـ مذكرة عن برنامج مواجهة الإخوان في الجامعة ـ مذكرة مقدمة من إبراهيم الشهاوي حول تصرفات مصطفى البرادعي نقيب المحامين إزاء موضوع الإخوان المسلمين (بالمناسبة هو والد الدكتور محمد البرادعي فتأمل سخرية القدر) ـ تقرير عن أسماء بعض الإخوان المسلمين من نابلس وتأشيرة السيد الرئيس لسامي شرف “كل من يثبت أنه من الإخوان يرحّل” ـ مذكرة حول قصة نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل” ـ مذكرة عن أحد الأفراد يقوم بجمع تبرعات لأسر المعتقلين.
في نفس الفترة ستجد تقارير أخرى عن: محاولة مريبة لتنظيم في الإسكندرية ـ تقرير حول مسرحية “الفتى مهران” ـ مذكرة من أدهم جمال هدايت بشأن إيفاد طلبة مغتربين إلى أمريكا للدراسة في المدارس الأمريكية ـ تقرير علي الراعي حول مسرحية “الشبعانين” ـ تقرير مقدم من صلاح زكي وميشيل كامل وراجي عنايت وسعد كامل وصلاح حافظ (مجموعة أحمد فؤاد) بشأن تعيين جلال الحمامصي مشرفا عاما على التحرير بأخبار اليوم ـ رسالة واردة من مواطن يزعم فيها أن الإنتهازيين والمنحرفين يسيرون دفة الأمور في الأمانة العامة للإتحاد الإشتراكي (لم يتم اتخاذ أي اجراء بخصوصها والله أعلم ماذا حدث للمواطن نفسه) ـ معلومات عن العناصر الشيوعية الموجودة بمصانع الغزل والنسيج ـ تقرير من المخابرات العامة بشأن قيام علام محمود علام بالتخلص من أرضه الزراعية ـ تقرير مقدم من الدكتور توفيق حسين عن محادثة تليفونية بينه وبين الدكتور محمد حنفي الدين أبو العز (تخيل معي أستاذا جامعيا ينهي مكالمة ليقوم بكتابة تقرير عنها) ـ تقرير مقدم من جمال بدوي عن اتصالات حول تشكيل شيوعي ـ تقرير عن تصرفات المهندس أحمد محرم ـ مذكرة حول ما يتردد عن عبدالحميد غازي مقدمه محمد عبدالغفار ـ مذكرة عن مسرحية “بير السلم” ـ مذكرة بما يدور بين الرأي العام عن شراء زكريا محيي الدين نجف بألف وسبعمائة جنيه ـ معلومات من أفراد يعملون بمصنع صباغة الخيوط بالوايلي (موقع خطير للغاية كما تعلم!) ـ تقرير حول تعليمات كنسية للمسيحيين بعدم تنظيم الأسرة مقدمه أحمد كامل ـ تقرير من جمال بدوي عن تصرفات رأسمالية مريبة ـ تقرير من جمال بدوي عن الإقطاع بقرية القشيش مركز شبين القناطر.
في موضع آخر ستجد تقريرا يحمل عنوان (تقرير عن نكتة وتعليقات تمس النظام)، لاحظ هنا أن عبدالناصر لم يكن يتعامل بأريحية مع النكت التي تقال عنه والتي كان يجمعها له جواسيس تنظيمه السري، فهو الرئيس المصري الوحيد الذي خرج علنا في خطاب ليهاجم النكت التي يطلقها المصريون على نظامه، فضلا عن انتقاده حتى للكاريكاتيرات الإجتماعية التي كان يرسمها الفنان العظيم حجازي في مجلة (صباح الخير)، لاحظ أن عنوان التقرير يعتبر أن هناك (نكتة وتعليقات) يمكن أن تمس النظام، وربما لو تأملت هذا المعنى لأدركت لماذا توجد تقارير تتحدث عن أشخاص عاديين لا يبدو لنا الآن أنه كان لهم دور سياسي خطير تذكره كتب التاريخ مثلا، لأن الفكرة هنا لم تكن وجود خطورة للشخص من عدمه، بل ضرورة مراقبته سواءً كان مواليا أم معارضا لتكتمل السيطرة على البلاد، لذلك تجد في عناوين التقارير ما يأتي: تقرير بخصوص الصحفي محمد جلال كشك ـ تقرير من كمال الحناوي عن ممتلكات كمال رشاق ـ تقرير من الطالب حازم حسين عن منظمة الشباب بأسيوط ـ مذكرة من عبدالغفار شكر عن محاولات التهريب للأراضي الزراعية ـ تقرير إلى شمس بدران بشأن العاملين بالقوات المسلحة من عائلة التلاوي والفقي ـ تقرير إلى حسن طلعت بشأن صلة السيدة مفيدة يوسف الفقي بعائلة الفقي من عدمه ـ تقرير عن سلوك محمد كمال الدين دسوقي ملاحظ مباني بإدارة الأشغال وانحراف اتجاهاته السياسية إخوان مسلمين ـ مذكرة معلومات حول ما يجري في مدرسة السنية الثانوية عن نشاط سياسي مريب إخوان مسلمين ـ تقرير من صلاح حافظ حول تقرير للدكتور عبدالقادر حاتم ـ تقرير إلى شعراوي جمعة بشأن كشوف أسماء معادية من موظفي الدولة والقطاع العام مطلوب فصلهم واعتقالهم ـ تقرير عن الدكتورة فوقية حسن محمود ـ تقرير مقدم ضد الدكتور محمود عبده بمؤسسة الدواجن بأسيوط ـ مذكرة من جمال هدايت بشأن انحرافات فكري فرج الأخصائي الاجتماعي بمدرسة إسماعيل القباني الثانوية ـ تقرير عن التنظيم السري الجديد للإخوان المسلمين بمركز منوف ـ تقرير عن نشاط للتنظيم الشيوعي بمركز بيلا كفر الشيخ ـ تقرير بشأن نشاط شيوعي بكلية الحقوق بالإسكندرية ـ تقرير عن تصرفات حمزة الشبراويشي صاحب شركة الشبراويشي ـ تقرير عن مجلس الكنائس العالمي والإنحرافات بجريدة وطني ـ تقرير بشأن أعضاء التنظيم الطليعي الذين تم إيفادهم للحج سنة 1967.
ضع نفسك مكان قائد البلاد وأنت ترى المئات من هذه التقارير تتدفق عليك كل يوم من رجال اخترتهم بنفسك ومنحتهم كافة الصلاحيات لكي يكونوا هم عيونك وآذانك التي ترسم حركة أذرعك الباطشة وقبضتك الساحقة، ألن تشعر عندها بالرضا عن النفس لأنك تقود دولة قوية عفية لا يتسرب إليها الوهن أبدا، هل يمكن أن يخطر على بالك في ظل لحظة انتشاء كهذه أن تلك الشبكة التي قمت بتشكيلها للسيطرة على الدولة ليست سوى شبكة عنكبوتية تصطاد الضعفاء وعاثري الحظ، لكنها ستنهار على الفور إن هوت عليها يد ثقيلة؟، وهو ما حدث للأسف الشديد عندما اجتاحت اسرائيل سماء مصر وأرضها، لتسقط كل الأكاذيب التي عاش عليها المصريون طيلة عقدين من الزمان، فيكتشفوا أن البلد لم تكن مؤمنة من الأعداء الذين امتلأت سجونها بهم حتى الثمالة، لكن هل أدرك جمال عبدالناصر بعد تلك الهزيمة المريرة أخطاء دولته الأمنية المدعومة بتنظيمه الطليعي السري؟، هل قام بتغيير طريقته في التعامل مع الواقع المهترئ الذي أنتجه؟، للأسف لم يحدث ذلك أبدا، ودعونا لكي نحكم على ذلك نواصل قراءة عناوين بعض الوثائق التي رصدها الدكتور حمادة حسني في كتابه (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري) مركزين على الفترة التي أعقبت الهزيمة مباشرة:
ـ 13 يونيو 1967 : تقرير إلى سامي شرف حول ما يتردد في الأوساط الصحفية (لاحظ أن من كتبوا التقرير ليسوا جهازا أمنيا بل صحفيون يتجسسون على بعضهم).
ـ مذكرة معلومات بتاريخ 18 يونيو 1967 عن اعتقال بعض الشيوعيين بالجهاز المركزي للمحاسبات (كأن الشيوعيين كانوا سبب وقوع النكسة وليس عبدالناصر وقادته الذين سلم لهم حبل البلاد على الغارب).
ـ 29 يونيو 1967: تقارير حاتم صادق ـ زوج ابنة عبدالناصر ـ عن الدكتور حسين كامل بهاء الدين.
ـ 11 يوليو 1967: تقرير عن مصطفى كامل مراد عضو مجلس الأمة.
ـ 24 يوليو 1967: تقرير من الدكتورة فوقية حسين لسامي شرف حول زيارات سيدات القاهرة.
ـ 26 يوليو 1967: معلومات عن ضابط الجيش من محمود أمين العالم.
ـ 13 سبتمبر 1967: مذكرة بمعلومات من محمود العالم عن أخبار اليوم.
ـ 12 فبراير 1968: تقرير من نبيل نجم بخصوص محمد عامر زهار.
ـ 6 مارس 1968: تقرير عن ترشيحات شرق القاهرة وسجل عن بعضهم بأن لهم نشاط شيوعي وإخواني ومعزولين.
ـ 23 مارس 1968: مذكرة حول تعيين محمود أمين العالم رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم.
ـ 26 مارس 1968: تقرير عن النشاط الطلابي في كلية العلوم بجامعة القاهرة.
ـ 29 مارس 1968: تقرير عن الدكتور ممدوح الموصلي.
ـ 16 مايو 1968: محضر اجتماعات مجموعة عبدالله إمام.
ـ 19 مايو 1968: تقرير معلومات عن كسر سرية التنظيم بشركة مصر للمستحضرات الطبية.
ـ 16 يناير 1969: تقرير من الصحفي سامي داود عن البرنامج التليفزيوني الكاميرا إدراك.
ـ 28 يناير 1969: تقرير عن اتصال السيد أنور السادات بمحمود أمين العالم وإبلاغه استلام إحسان عبدالقدوس للعمل في أخبار اليوم.
ـ 11 مايو 1969: تقرير مقدم من محمود أمين العالم فيه معلومات متفرقة.
ـ 15 سبتمبر 1969: مذكرة بمعلومات عن إعفاء محمود العالم من أخبار اليوم.
نكتفي بهذا القهر ونكمل في الأسبوع القادم بإذن الله بعيدا عن استعراض عناوين باقي التقارير لنستطلع بعض تفاصيلها المفزعة، ونرى أيضا كيف أسهمت عقلية تحويل المواطنين إلى جواسيس في تخريب السلطة القضائية بشكل لم تنج منه مصر أبدا حتى الآن.