وائل عبدالفتاح يكتب | مشاهد أخرى من رحلة كردستان
2- «أرض عذراء» وصْف تسمعه على لسان أكثر من مسؤول. وتراه شعار مرحلة غير معلن، فهم يعرفون أن كردستان تحتاج إلى الاستثمارات وتغيير ملامحها الريفية لتصبح «عاصمة» بالمعنى الحديث.
«أرض عذراء» تجتاحها جيوش من المستثمرين يحمونها من التهديدات… التركية.
«الأرض العذراء» الكردية، تنبت فيها الآن مراكز تجارية متوحشة. تخرج من بين مبانٍ قديمة، تبدو كمدينة أقزام تختفى.
على الطريق من المطار لافتات ضخمة تشير إلى «الإمبراطورية»، العنوان مكتوب بالإنجليزية وأسفله توضيح فرعى «البناء فى المستقبل». اللافتات تحيط بأراضٍ شاسعة تتحرك فيها رافعات البناء الضخمة، كأنها حيوانات خرافية تعلن سيطرتها على الأرض.
هذه هى ضريبة التحديث أو الخروج من زمن حروب العصابات. وبمعنى أدقّ محو آثار الماضى المؤلم. حركة العمران الضخمة تحاول دفن علامات النظام القديم.
إحلال وتجديد مرتبك، يعتمد على فكرة الغفران، كما حدث سياسيا مع عملاء صدام فى كردستان، وهم الذين تعاونوا مع مخابرات النظام السابق. ويروى مسؤول فى الحزب الديمقراطى الكردستانى التابع لرئيس الإقليم مسعود البرزانى أن «هناك العديد من الأكراد سمّوا أولادهم على اسم صدام. هؤلاء كانوا يتوقعون أن ننكِّل بهم. لكننا أعلنّا بعد 2003 العفو العام، لن نحاسب أحدا على الماضى».
هذه قاعدة ذهبية من قواعد بناء الدول، لكنها لا تكفى وحدها، لا بد أن تعرف ماذا تريد من المستقبل؟ ومن معك؟ وكيف تلعب مع الوحوش التى تبدو من بعيد أنيقة؟
3- «ممنوع»، قالها الشرطى مشيرا بيده إلى وقف التصوير. كرر الكلمة مرة أخرى. بدا ساعتها قويا وحاسما، رغم أنه يرتدى زى شرطة المرور وعليه رمز الدولة العراقية. كانت الصورة لامرأة تتسوّل وفوقها لافتة إعلان شركة «ويسترن يونيون» تقول: «هنا تحويل الأموال».
الشرطى ضبط محاولة اقتناص مفارقة الفقر والأموال. ساعتها، كان فى موقع سلطة متجبرة، لكنه على مقهى ديار بكر المتواضع جدا بدت معالم أخرى فى شخصيته: ودود وطيب. ترك عمله الأصلى بائعا فى محل لقاء راتب أفضل قليلا. كان فى وقت الراحة يحتسى الشاى الكردى المميز، وقطعة خبز. بدا توضيحه للمنع فى صيغة اعتذار رقيق: «التصوير ممنوع، لأن البلد مستهدف. والإرهابيون يبحثون عن فرصة».
تحدث الشرطى بالعربية، فهو من جيل قديم على عكس جوران، حارسنا وسائق سيارتنا فى الجولة الرسمية، يقود السيارة بمهارة شاب فى العشرينيات، ملىء بالثقة، ويتحرك بملابسه المدنية ومسدس يتدلى من جانبه. يبتسم كلما سمع اللغة العربية، وفى كاسيت سيارته يعلو صوت نجوم العرب الحاليين فى الغناء، لكنه لم ينطق كلمة عربية واحدة.
الكردية الآن هى اللغة الأولى، رغم أنها لغة محدودة بلا جغرافيا واسعة، ولا امتداد يجعلها لغة حية لها مستقبل، أو كما قال شاب كردى فى بلدة عينكاوة على أطراف أربيل: «فرض اللغة الكردية نوع من الغباء. لن نجد بها عملا». الشاب يعمل فى مخبز يخدم البلدة ذات الغالبية المسيحية، بينما صاحب المخبز مسلم من أربيل. الشاب العامل يعيش مع والده، بعدما سافر كل أشقّائه إلى ألمانيا بحثا عن حياة جديدة.
عينكاوة، أقرب إلى الضواحى النظيفة، على هامش مدينة محافظة مثل أربيل. تسير غالبية النساء فيها بحجاب أسود ينتمى كما عرفنا إلى تقاليد العشائر. مبانى القرية مختلفة، وفيها بارات وملاهٍ ليلية، لكنها المكان الوحيد الذى كتب فيه على جدار كنيستها الشهيرة: «مبروك للشعب العراقى إعدام الطاغية صدام حسين».
عينكاوة أقرب إلى السليمانية التى يعتبرونها «باريس» كردستان، السليمانية ثقافتها أكثر أوروبية. ورمزها الكبير الرئيس جلال الطالبانى وزوجته هيروخان، ابنة العائلة الثرية التى تركت كل شىء ورحلت وراء زوجها فى الجبال.