أيمن الجندى يكتب | عشر سنوات
كان البيت منعزلاً وبعيداً عن العمران، لكنه بدا فى عيونهما بمثابة جنة. وفكرى يحاول عبثاً استيعاب فكرة انفراده بامرأة ليِّنة الأعطاف فى مسكن واحد. يفعل بها ما يشاء، أليست حلاله؟ غالباً سيأكلها. وإنها ليِّنة مثل الملبن وبالتأكيد بلا عظام خصوصاً حين تمشى وتنثنى. أما إذا نظرت إليه بعينيها اللعوبين فيا ويلك يا فكرى. قرأت لمياء أفكاره فضحكت فى دلال فازداد اشتعالاً. لم يستوعب بعدُ أن زواجهما تم بهذه السهولة. كان يعلم أنه فقير إلى الحد الذى يجعل إتمام الزواج مستبعداً. بمعجزة من الله القدير وافق والدها على الفور وقرآ معاً الفاتحة فى الزيارة الأولى. بمعجزة أخرى وجد هذه الشقة بمقدم بخس! بدا كأن الحياة تكافئه لسبب مجهول بعد أن اعتادت ضربه بالسياط. وهكذا وجد نفسه مع امرأة حقيقية بديلاً عن أحلام اليقظة المحمومة والبحلقة فى الشوارع.
وعلى درجات البيت المنعزل شاهدا القطة. كانت بيضاء ومقططة، وعيناها خضراوان وفيها أنوثة. القطة كانت تتفتح للحياة مثلهما. يخطب ودها كل قطط الحى فتموء محتجة من هؤلاء الذكور الواقفين فى حماس تحت سلم العمارة. وما لبث قِطٌّ جسورٌ أن تغلب على منافسيه وصار زوجها ذات ليلة مقمرة. وارتفع صياحها وسط ضحك فكرى ولمياء. وظلا يستمتعان بملاحظة القطة العروس وأحوالها الغرامية. ويقدمان لها الطعام ويعتبرناها فرداً من العائلة يتقاسمان معها السعادة. اللذة الحريفة التى تقدمها الحياة للشباب كطُعم فوّاح حتى يتصل النسل وتستمر الدورة. ولم يكن أى منهم يعلم ما تخبئه الحياة لهم بعد أن تحصل على مرادها.
دار الكوكب الأرضى عدة مرات فى الفضاء السحيق الممتد بلا نهاية. فى السنوات التالية اكتسبت لمياء بدانة وضاعت ملامح الجسد العبقرى كما يختفى التمثال فى قلب صخرة. تحولت لمياء إلى كتلة دهنية غبية وبدأ الصلع يعرف طريقه إلى رأس فكرى. وعيناه الذكيتان اللامعتان اكتسبتا الآن نظرة بليدة. وفقد كلاهما الاهتمام بالقطة التى صارت تغوص فى صندوق القمامة لاجتلاب طعامها.
مع الأيام تحسنت أحوال فكرى المالية فانتقلا إلى بيت أوسع، لكنهما افتقدا سعادتهما القديمة وذلك الشغف بمفاجآت الحياة المخبَّأة فى صندوق ملون. خصوصاً مع قدوم العيال والضجيج الذى أربك نومها وضيّق خلقه.
بعدها وقع فكرى فى حب سكرتيرة شابة لها قوام لمياء القديم وعيناها اللعوبان. بعد فترة من المقاومة اليائسة غادر بيت الزوجية إثر مشاجرة دامية. وهكذا تم زواجه الثانى، لكنه افتقد الشغف القديم وروعة البدايات، حين كان شاباً فى مقتبل العمر له عينان متوهجتان وقوام نحيل ونظرة ذكية.
كانت قد مرت عشر سنوات حين طلق فكرى زوجته الثانية. لم يفكر فى العودة للمياء التى صارت امرأة بدينة فى منتصف العمر تغلب عليها الكآبة. ووجد قدميه تقودانه إلى البيت القديم الذى لم يعد نائياً بعد زحف العمران عليه من كل جانب. وهناك استأجر شقته القديمة التى لم يعرف السعادة فى غيرها. كانت القطة فى هذه الأثناء قد أوغلت فى الشيخوخة بعد أن عاشت بمعجزة كل هذه الأعوام. وعلتها كآبة وعانت من اعتلال المزاج وفقدان الشهية. كانت راقدة فى فتور على سلالم العمارة التى شهدتها عروساً بيضاء لامعة. لم تعرفه حين مر بجوارها ولم يعرفها. وتداخلت روائح الطعام الخانقة فى منور العمارة وهو يصعد لاهث الأنفاس إلى شقته الصامتة.