إبراهيم عيسى يكتب | هي في شرفتها
شعرها مصفف ومسرح وبنسات سوداء ماكرة تحكم استرسال الشعيرات وتضبط تمرد الخصلات وتقنن جنون الجمال، وفى عينيها هذا البرق الكونى الشامل فى اتساع حدقات تحضن مخلوقات الله -حتى التى لا يرضى عنها الله- وبشرتها بهذا البياض الحليبى تشبه بياض بطن الكمثرى النقية، أتوق لأمرر فوقها سبابتى مرتجفة وملهوفة -يغطيها بلل العشق المنفلت- شفتاها تداعبهما بلسانها الرطب اليقظ، فيظهر لمعان خفيف على الشفتين برضاب باهر، وترفع رأسها فيظهر سفح ذقنها معانقًا العنق العاتية.. وفى زيّها الأسود، بلوزتها المضبوطة على صدر نافر تحتبس فيه عصفورتين من الجنة عن الانطلاق المتهدل، يبزغ الريش الناعم وشبق الطيران المتفجر القلب الممتنع عن التفتت، وهذا الحزام الذى يحتل منطقة تدخل تحت حق ذراعىّ القانونى والدستورى.. والتاريخى، ثم جيبتها السوداء بخطوط دقيقة رقيقة من البياض الملتمع تنتهى أطرافها عند دوران الساقين وانزلاقهما الرهيف إلى الانغماس فى حذائها المنمق.
هل أندفع ناحيتها وأجثو بكل ما فىّ من بلل وماء يعصرنى، ويكسو لحمى وثوبى؟ هل أرمى بصدرى على صدرها وأبكى منهمرًا كانفتاح سد نهر بعد انسداد جفاف؟ وبهذا القميص المفتوح لتمزق أعلاه وانخلاع أزراره وانكشاف صدرى عن شعيرات قليلة مبلولة، وبنطالى انخلع حزامه وتساقط على فخذى معلقًا فى آخر طوق له على خاصرتى، وطين طرى يملأ حذائى المقطوع وذيل البنطال الذى انسلتت خيوطه وتقطع قماشه وانفكت ثنيته وتمزقت فى غير انتظام وبلا حدود.
هل أجرى ناحيتها وأنام بين كفيها على وصيد الباب، أغمس أصابعها فى شفتى وأدفن دموعى فى بطن كفيها وأحوط جيبتها بذراعى مرتجفة ومهزومة وولهانة ومحتاجة.. محتاجة جدًّا.. وأقول لها كل ما يمكن أن أقول ساعتها؟
ثم أسألها عن سر غيابها عن شرفتها..
وأذهب معها حتى شرّاعات النوافذ فأفتحها وأريها مقعدى الخالى على الرصيف المقابل وأعبث مداعبًا أطراف أذنها، ألصق شفتى بها وأقول لها هل تسمعين صوت المغنى صاعدًا من التسجيل؟ هل ترين كل هذه الأمطار التى أغرقت المكان وصوت قرقعاتها حين تصطدم بقاعدة المقعد؟
هل كانت تنتظرنى واقفة فى ملائكيتها المعلنة بقميص نومها الأبيض وروب صوفى ناعس ودافئ؟!
تأخذنى فى يديها، تجفف بللى وتمسح دمعى وتغسل دمى وتطيب جروحى وتربت على روحى وتكوى لى قميصًا وتهدينى دثارًا وبنطلونًا، وتدثرنى وتزملنى..
وأستدفئ بذراعيها تضماننى فى رفق الحنان الراضى وتضغط على كتفى بذراعيها وتضع رأسى تحت ذقنها وتقول لى:
– أطلت رحلتك وطال انتظارك.
وتخبرنى أنها أحبتنى طويلاً وأنها تفتح قلبها لى سكنًا وأنها تريد أن تخبئنى فى صدرها وأنها تحب شاربى الكث ونظارتى السميكة وحاجبى الثقيلين وصوتى الزاعق وانهزاماتى الدائمة وفشلى المتلاحق، وأنها تفرح بى وبكل ما أفعله وتطير ألقًا وتهتز طربًا وترتج نشوة حين أخبرها أننى أذوب فى هواها وأشتاق إليها، وألهث وراءها وأريد من دنياى أن أمكث عند ملامستها الأرض، وأحلق فى عينيها وأحكى لها.. وأبوح.
هل كانت تنتظرنى لنفعل كل ذلك؟
كانت الشقة خالية، خافتة الضوء، وكان كل شىء يوحى أنها رحلت!
قلبت فى أوراقها، ألقيت الكتب باحثًا عن دليلها..
أسقطت المكتب والمكتبة لعل شيئًا مختفٍ..
رفعت الوسائد والمراتب..
فرشت الأثواب كلها على الأرض..
نشرت الفوضى فى السجاجيد وأدراج الصوان..
نثرت صور الحائط..
كسرت المصابيح بأعمدتها وزجاجها الملون وشموخها الرتيب.. انشرخت المرايا المعلقة..!
تحطمت سيقان وأفرع الزروع.
وصرخت فى المكان الذى نظمته فوضاى.
وأطلبها فلا تجىء.
أناديها فلا ترد..
ألمس حقائبها، ألثم ثيابها، أحضن قميصها، أدس رأسى فى منشفتها، أمسك أطباقها، أقبل حافة كوبها، أعانق غطاء سريرها، أكور ملاءتها فى صدرى، أبكى على وسادتها، أرتعش ملامسًا أنفاسها، أنتحب وكتبها داخل حضنى، أرفع جوربها إلى شفتى، أجمع أشياءها كلها وأهبط إلى السلالم.. لكننى أعود مرة أخرى إلى شقتها..
أعيد ترتيب الأماكن وأنظم الأشياء..
وأضعها موضعها الآمن اليومى..
لعلها تأتى فتلمسها وتمسكها وتطل عليها وترتديها وتتوحّد البصمات المرتجة بالرجفة العاشقة.. ستعود لأشيائها.
الهدود نفسه والركون والسكون..
أغلقتُ الباب.. وهبطتُ..
فى الشارع.. فوق الرصيف.. على المقعد.. تحت المطر.. جالسًا.