فهمى هويدى يكتب | المصالحة مع المجتمع أهم
هل تستعيد مصر عافيتها السياسية بمجرد التصالح مع الإخوان وفلول نظام مبارك؟ ــ السؤال من وحى دعوة بهذا المضمون كانت عنوانا وموضوعا لمقالة نشرتها صحيفة «المصرى اليوم» (عدد السبت 18/10). ورغم أننى لم أجده مقنعا الربط بين الجماعة والفلول، حيث لا وجه للمقارنة بين مشكلة الأولين ووضع الأخيرين، إلا أننى لا اختلف مع الدعوة لانصاف كل مظلوم، كما اننى لا اختلف فى ان المصالحة الوطنية تظل هدفا نبيلا ينبغى السعى لتحقيقه بكل السبل. إلا أننى أزعم أن المصالحة المفترضة إذا تمت فلن تعيد إلى مصر عافيتها المنشودة، لأن مشكلة مصر الراهنة أكبر من الإخوان ومن الفلول. ولا اخفى اقتناعا بأن الفلول المدللين منذ قامت الثورة، ومبارك على رأسهم، لا يمثلون مشكلة حقيقية فى الساحة السياسية، فى حين أن مشكلة الإخوان أكثر جسامة وتعقيدا. ذلك أن آلافا منهم قتلوا فى فض الاعتصامات أو احتجزوا فى السجون والمعتقلات (الكاتب قدر عدد الإخوان والمتعاطفين معهم بنحو عشرة ملايين شخص)، ولأن حضور الإخوان أكبر فى مواقع التواصل الاجتماعى، فقد لاحظت أن كثيرين منهم يشيع بينهم الاعتقاد بأن أزمتهم مع السلطة هى مشكلة مصر الحقيقية، وان حل هذه المشكلة كفيل بعودة الاستقرار والهدوء إلى البلد.
تقديرى أن اختزال مشكلة مصر فى الإخوان أو غيرهم يعد تبسيطا شديدا وقراءة مبتسرة ومغلوطة للواقع السياسى. لا أريد أن أقلل من أزمة الإخوان، لكننى أعتبرهم جزءا من المشكلة وليسوا كل مشكلة مصر الراهنة. بل يسارونى الشك فى ان ذلك الاختزال قد يكون مرغوبا ومطلوبا من بعض الجهات، لصرف الانتباه عن الأوجه الأخرى للمشكلة التى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأى فصيل سياسى، الإخوان أو غيرهم. وسأضرب بعض الأمثلة التى تؤيد ما أدعيه، التى منها ما يلى:
< فجريدة المصرى اليوم التى نشرت المقالة التى كتبها الدكتور سعد الدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع المعروف أبرزت على صفحتها الأولى لنفس العدد عنوانا تحدث عن انتفاضة واسعة لدعم حرية الصحافة فى مواجهة محاولات تكميم الأفواه وتقييد حرية الرأى والتعبير. وكانت تقصد بذلك البلاغ الذى قدمته وزارة الداخلية ضد رئيس تحرير الجريدة وأحد المحررين واتهمتهما فيه بسرقة مستندات إحدى القضايا.
< قبل ذلك بيومين (فى 16/10) أعلن مركز كارتر المعنى بمتابعة الانتخابات انه أغلق مكتبه فى مصر بعد ثلاث سنوات على افتتاحه، نظرا لغياب الديمقراطية والحريات الأساسية الأمر الذى لا يمكنه من أداء مهمته.
< فى يوم الجمعة 17/10 نشرت جريدة الشروق مقالة للدكتور إبرهيم العيسوى الخبير الاقتصادى البارز تحت عنوان «فاجعة الجامعة» وهو الوصف الذى شخَّص به الأوضاع الراهنة للجامعات التى أطاحت السلطة باستقلالها، ويجرى الآن تعديل قانونها. كما انتقد فيه تشديد القبضة الأمنية على الأساتذة والطلاب، معتبرا أن من شأن ذلك «زيادة الإحساس بالظلم والقهر، وهو ما يفضى إلى المزيد من الغضب والتمرد والجموح».
< وكانت جريدة الشروق قد نشرت يوم الثلاثاء 14/10 مقالة للدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء السابق انتقد فيها قانون الجمعيات الجديد، الذى اعتبره «نقطة تحول فى علاقة الدولة بالمجتمع المدنى (الذى) يعلق سيفا على رقاب ليس فقط العاملين فى الجمعيات الأهلية وإنما كل من له نشاط عام، بما فى ذلك الحزبى والنقابى والأهلى والاجتماعى»، معتبرا أن ذلك وضع لم تعرفه مصر منذ زمن طويل.
هذه النماذج تتابعت خلال الأسبوع الأخير وحده، وهى ترسم بعضا من معالم أزمة الواقع الراهن، التى لا علاقة للإخوان بها، وجميعها متجاوزة لحدود الجماعة، ووثيقة الصلة بقضية الحريات العامة التى تشهد تراجعا لا يلقى ما يستحقه من انتباه واهتمام، بسبب التركيز على ملاحقة الإخوان وتسليط القسط الأكبر من الأضواء على المحاكمات والتحقيقات والاعترافات وتقارير الأجهزة الأمنية حول الإرهاب بمختلف تجلياته.
لم أتحدث عن استقلال القضاء والتعديل الذى أدخل على قانون الإجراءات الجنائية بمد أجل الحبس الاحتياطى لكى يكون بديلا عن الاعتقالات والطوارئ. ولا عن قانون التظاهر الذى ينتهك الدستور وبسببه تم سجن مئات من شباب الثورة (بعضهم مضرب عن الطعام الآن). كما لم أتحدث عن التسريبات التى كشفت عن الاتجاه لتعديل الدستور لتوسيع سلطات رئيس الجمهورية. ولم أتعرض للرؤى الاقتصادية واخلالها بقضية العدل الاجتماعى. ولا عن السياسة الخارجية والتحالفات الجديدة فى المنطقة العربية التى انضمت إليها مصر، وعلاقة تلك التحالفات بمخططات الدولة العبرية…إلخ.
كل هذه العناوين لا شأن لها بموضوع الإخوان، الأمر الذى يؤيد الادعاء بأن قضية الحريات والمسار الديمقراطى هى مشكلة مصر الأولى. أما موضوع الإخوان فإنه يعد قضية تالية فى الترتيب. وإذ أقر بأنها ستظل وجعا لابد من علاجه يوما ما، وأعتبر ذلك أمرا مهما لا ينبغى التقليل من شأنه، إلا أننى عند رأيى فى ان اطلاق الحريات العامة وتصويب المسار الديمقراطى هو العنوان الأهم بكل المعاريير. والأولى مشكلة الجماعة وأنصارها أما الثانية فهى مشكل الوطن كله، بل العالم العربى بأسره. وقد تكون الأولى قضية خلافية، فى حين أن الثانية تشكل عنوانا لا يختلف عليه ويحظى بتأييد الأغلبية واجماعها.
إن المصالحة مع المجتمع ينبغى أن تقدم على المصالحة مع الجماعة، أى جماعة.