بلال فضل يكتب | آن الأوان ترجعي يا دولة الجواسيس (الحلقة الرابعة)
وقائع قتل استقلال القضاء المصري في ظروف ليست غامضة!
………………………………………………………….
كيف يمكن أن تحقق السيطرة الكاملة على القضاء الذي يزعجك استقلاله عن السلطة التنفيذية التي تهيمن عليها، وتضايقك قدرة بعض قضاته على التحرك بعيدا عن التعليمات والأوامر، ويستفزك عدم اكتراث بعض رجاله بما تمنحه لهم من ترغيب وما تمارسه عليهم من ترهيب؟
بسيطة: أصدر قانونًا يجعل لك الحق في التحكم في مفاصل حركة القضاء، فيصبح من حقك تعيين القضاة الذين ترضى عنهم في مواقع مهمة، وإزاحة القضاة الذين يقلقونك إلى مواقع غير مؤثرة، والتحكم في أحكام الذين يفاجئونك بأحكامهم من خلال التحكم بشكل قانوني غير ملحوظ في من سينظرونها في مراحل التقاضي التالية، ولا تنس بعد ذلك كله أن تطلق على ذلك القانون إسم (قانون إصلاح القضاء)، وأن تصدره في ظل قصف إعلامي شرس يحذر الشعب من الهجمة الشرسة على الوطن والمؤامرة الخارجية ومصر المستهدفة من خونة الطابور الخامس.
هذا بالضبط ما فعله جمال عبدالناصر بعد أن تلقى نظامه ضربة قوية بنتائج انتخابات نادي القضاة التي أجريت في 21 مارس 1969، والتي حشد وزير “عدله” محمد أبو نصير كل إمكانيات الدولة لإنجاح قائمة من قضاة التنظيم الطليعي، والتي نافستها قائمة من أنصار استقلال القضاء ـ لم يكن ذلك الشعار قد تم ابتذاله بعد ـ يقودها المستشار ممتاز نصار، لتجيئ نتيجة الإنتخابات مفاجأة للجميع، حيث سقطت قائمة السلطة سقوطًا ذريعًا، ولم ينجح من أعضاء المجلس الخمسة عشر اسم واحد ينتمي إلى مرشحي قائمة التنظيم الطليعي، ليقرر عبدالناصر بعد هذه الخسارة الفادحة أن يذهب في تصعيده مع القضاة إلى أبعد مدى، طبقا لما يكشفه الدكتور حمادة حسني في كتابه (عبدالناصر والتنظيم الطليعي السري 1963 ـ 1971)، حيث بدأت على قدم وساق إجراءات إعادة تشكيل الهيئات القضائية التي عرفت فيما بعد بإسم (مذبحة القضاء) والتي تم الإعداد لها خلال عشر اجتماعات سرية عقدتها لجنة من قضاة التنظيم الطليعي عقب إعلان نتائج الإنتخابات وحتى 9 يوليو 1969، حيث كانت تجتمع بمكتب سامي شرف يوميًا بإشراف من أنور السادات، رئيس مجلس الأمة وقتها، وبرئاسة علي نور الدين النائب العام وعضوية كل من المستشار عمر شريف وعلي كامل، لتتم بعد انتهاء كل الترتيبات إقالة الوزير محمد أبو نصير، بعد أن أدى دوره كاملا، لكي تخرج القرارات غير مرتبطة بشخصه الذي كان قد أصبح خصمًا لقضاة مصر وناديهم المنتخب، وليصبح واضحا للجميع أنها صادرة من عبدالناصر مباشرة، حتى أن سيد مرعي الذي كان من أبرز رجال عبدالناصر يروي أنه عندما طلب منه محمد حسنين هيكل رأيه فيما سيتخذه عبدالناصر من إجراءات ضد القضاة، طلب منه تحذير عبدالناصر من أن ينساق إلى تلك الإجراءات المعتمدة على بيانات خاطئة تلقاها من محمد أبو نصير وشعراوي جمعة، وبرغم أن هيكل أبلغ عبدالناصر وجهة نظر مرعي كاملة إلا أن عبدالناصر أصر على تنفيذ إجراءاته التي لا زالت مصر تدفع ثمنها حتى الآن كما سنرى.
في 31 اغسطس 1969 صدرت القرارات الجمهورية بالقوانين 81، 82، 83، 84 لسنة 1969 حاملة اسم “قوانين إصلاح القضاء”، حيث تم بناء عليها إعادة تشكيل الهيئات القضائية بعد استبعاد 189 من رجال القضاء من الخدمة من بينهم جميع أعضاء مجلس إدارة نادي القضاة المنتخب بقرارات حملت توقيع وزير العدل الجديد مصطفى كامل إسماعيل قبل أن يحلف اليمين أصلًا، كما قضت القرارات بإنشاء محكمة عليا تهدف إلى “تمكين القضاة من المشاركة لحمل أمانة حماية الثورة” ـ ليس مهما أن يكون هناك معنى حقيقي لهذا الكلام، المهم أن تكون المحكمة جاهزة للحكم في القضايا التي تصدر فيها الأوامر قبل النظر فيها ـ كما أنشأت القرارات مجلسًا أعلى للقضاء يشرف على الهيئات القضائية وينسق ما بينها، وأباحت الحكومة لنفسها سلطة إصدار قرارات بإعادة تعيين أعضاء الهيئات القضائية في وظائفهم أو في وظائف أخرى للحكومة والقطاع العام.
كما تم بالإضافة إلى كل ذلك تعيين مجلس إدارة لنادي القضاة بدأ على الفورـ طبقا لسِلو بلدنا الدائم ـ بتعليمات من بعض رموز السلطة في البحث عن أية مخالفات مالية وإدارية يمكن محاسبة المجلس المنتخب عليها، وهو بحث لم يسفر عن شيئ بالطبع، بل ووصل الحصار للقضاة المنتخبين إلى حد محاولة منعهم من ممارسة المحاماة داخل البلاد، ومنعهم من السفر خارج البلاد بعد أن حصلوا على عقود عمل هناك، حتى أن أحد أبرز هؤلاء القضاة وهو المستشار يحيى الرفاعي ـ الذي حمل لقب شيخ القضاة فيما بعد ـ تم إنزاله من الطائرة قبل قيامها وألغي سفره نكاية وظلمًا، ليتم منعه من العمل كمحامي في مصر، فيذهب إلى مكتب النائب العام معلنًا أنه سيضطر للعمل كسائق تاكسي لسيارته الخاصة، واضطر هؤلاء القضاة إلى أن يخوضوا حربًا قانونية شرسة من أجل الحصول على حقهم في العمل كمحامين، قبل أن تدور الأيام ليتم إنصافهم ويصدر في عهد أنور السادات ـ وبالضالين ـ أحكام قضائية تقرر عودتهم للخدمة واحتساب أقدمياتهم، فضلًا عن تحول أغلبهم إلى رموز وطنية مشرِّفة في العمل النيابي والقانوني، برغم قيام الإعلام الحكومي بمحاربتهم وتشويههم وطمس سيرتهم في العهود المتعاقبة وحتى الآن.
بعد أن تخلص عبدالناصر من المناوئين له في القضاء، جاء الدور على رجاله في التنظيم الطليعي في أول اجتماع عقده الإتحاد الإشتراكي في 11 ابريل 1970، والذي حمل إسم الإجتماع الأول للجنة العامة للمواطنين من أجل المعركة، ليقف أحدهم وهو المستشار محمد السيد الرفاعي عضو التنظيم الطليعي معلنًا لعبدالناصر أنه يتحدث نيابة عن رجال القضاء والنيابة، مبلغًا الرئيس رغبتهم الشديدة والمُلحة في الإنضمام للإتحاد الإشتراكي “لأنه ليس عملًا سياسيًا ولكنه عمل قومي”، وطبقًا لمحضر الاجتماع الذي ينشره الدكتور حمادة حسني، يبدو عبدالناصر وكأنه مندهش مما قاله رجله الوطني، فيعلق ـ ضمن كلام كثير حاول فيه تبرير قراراته الغشيمة ـ قائلًا “ماهو ده اللي أنا بدي أقوله، إن ده عمل قومي مش عمل سياسي… وأنا في الحقيقة أرى أن القضاة يجب أن يشتركوا في العمل القومي لأنه طالما أن ما باقولش الإتحاد الإشتراكي حزب، لأنه لا يمثل طبقة أو فئة أو مصلحة وهو تحالف قوى الشعب كلها، وهذا الموضوع كان موضوع لمعركة وهمية، كانت موجودة في نادي القضاة واستمرت من أول سنة 1968 لغاية منتصف 1969، وأنا كنت متتبع ما يحدث وكل كلمة بيقولها كل واحد، وكنت شايف العملية دي يعني المؤلم فيها إنها جت في هذه الأوقات اللي إحنا بنمر فيها، والحقيقة اللي حصل بعد كده وهو راس المعركة، إنه هل ينضم القضاء للإتحاد الإشتراكي والحقيقة هي كانت معركة فارغة، ويعني كانت عملية مفتعلة لأهداف غير رأس الموضوع ولكن بنحل هذا الموضوع”.
إذا كنت متابعًا للخطاب السياسي والإعلامي لسلطة عبدالفتاح السيسي، فلعلك لن تستغرب حديث عبدالناصر بالأمس ـ الذي نعيده اليوم دون لمسة ابتكار ـ عن توقيت المعارضة الذي لا يراعي ظروف البلاد وعن العمليات المفتعلة والأهداف الخفية، ليقوم بمواصلة تشويه وطنية معارضيه حتى بعد أن بطش بهم ماديًا، فيبدو للشعب الذي يثق في حكمة قائده، أن دفاع أولئك القضاة عن استقلال القضاء لم يكن إلا مساعدة للعدو الصهيوني في معركته ضد مصر، برغم أن بيانات مجلس نادي القضاة المنتخب كانت تحمل كلامًا شديد الوضوح عن كون سلاح القضاء المستقل أمرًا مهمًا في معركة مصر ضد العدو الصهيوني لتحرير أرض مصر، ومع ذلك يغفل عبدالناصر متعمدًا الإشارة للمواقف الوطنية لهؤلاء القضاة، ليتحدث فقط عن ألمه من توقيت إثارتهم للمعركة، التي يصفها بأنها فارغة ووهمية، دون أن يقوم بتفسير لماذا خاضها إذن حتى أبعد مدى إذا كانت فعلا فارغة ووهمية؟، فهو يعرف أن أحدًا لن يجرؤ على أن يسأله سؤالًا كذلك، فكيف يعلو صوت بالتساؤل والتشكيك فوق صوت المعركة التي ليس من حق أحد أن يحددها سوى القائد البطل الملهم، حتى لو كان مهما من أجل المعركة أن يسأله أحد بكل شجاعة ما الذي استفادت منه البلاد من قيامه ـ كما اعترف ـ بمتابعة كل كلمة تقال في نادي القضاة في ظل أوقات عصيبة يفترض أن لا ينشغل فيها إلا بمعركة تحرير الأرض التي كانت بالفعل قوات الجيش تقدم وقتها بطولات باسلة تحت قيادته، وكم كان سيكون رائعًا لو واصل التكفير عن خطاياه بتفكيك التنظيم الطليعي الذي ساهم في إفساد البلاد، وبإدراك أهمية استقلال القضاء، لكنه على عكس ذلك تفرغ في فترة شديدة الصعوبة لإصدار قرارات هدمت فكرة استقلال القضاء من أساسها بشكل لم يعد بعدها القضاء المصري مستقلًا أبدا.
في ختام دراسته لتجربة التنظيم الطليعي مع القضاء يشير الدكتور حمادة حسني إلى الآثار بعيدة المدى التي ألحقتها تلك التجربة باستقلال القضاء قائلا إن “الساسة الذين حكموا مصر بعد عبدالناصر لم يكونوا أحرص على استقلال القضاء ولا على حيدته، فقد عاد القضاة المفصولون بعد تباطؤ وتلكؤ، عاد البعض منهم دون الآخرين بقانون صدر، ثم مورست ضغوط لتحرك الرأي العام ورفعت الدعاوى، وحكمت محكمة النقض للمستبعدين، فصدر قانون آخر بإعادة الجميع، كما صدر قانون السلطة القضائية برقم 46 لسنة 1972، وقانون مجلس الدولة برقم 47 لسنة 1972، وأبقيا على هيمنة وزارة العدل على الهيئات القضائية من خلال المجلس الأعلى للهيئات القضائية المقضي ضمنًا بانعدام قرار إنشائه، وأبقيا على دور وزارة العدل في أوجه إشراف فعالة ومؤثرة على القضاة والمحاكم، بالمخالفة الصارخة لمبدأ استقلال القضاء والقضاة المنصوص عليه في كافة الدساتير المصرية والمقارنة مما كان له أثره في ضياع ضمانات هذا الإستقلال”.
أما ما قام به أنور السادات من إعادة القضاة لمناصبهم وإلغاء قوانين منع التقاضي والإفراج عن أموال المعتقلين السياسيين ورد أموال من خضعوا للحراسة، فيعتبره الدكتور حمادة حسني نوعًا من إتباع نصيحة الخليفة أبي جعفر المنصور حين قال لابنه ما معناه “لقد كنتُ استصفيتُ أموالا للناس، وجعلت في خانتي ثبتًا بما استصفيت، فإذا توليت الخلافة فأعد للناس حبوسهم، حتى يبدو أنهم في عهد جديد”، وهو ما قام به السادات ومن خلفه مبارك، ليبدو للناس أنهم في عهد جديد، في حين أن أي قراءة متأملة للقوانين التي أصدرها كل منهم تبين أن التغيير الذي حدث هو استبدال نموذج المواجهة الصريحة الذي اتبعه عبدالناصر والذي يجعل الأفراد يتجمعون ويكونون أكثر تماسكا، ليتم اتباع منهج جديد يصفه الدكتور حمادة حسني بأنه منهج الإفساد والغواية “الذي يفرق الجماعات ويجعل المعارك فردية ويجعل ميدانها لا خارج النفس ولكن داخل الجوانح والجوارح، ويحيل المعارك العامة إلى معارك ذاتية نفسية… فيستمر ضمان أحادية السلطة في عهدي السادات ومبارك برغم الشكل التعددي الذي ظهرت به الحياة الحزبية، ويتم ضمان بقاء فردية القرار رغم المظهر التعددي الذي يتخذه، ويتم ضمان أن تصدر الإرادة الجماعية لأي مجلس أو هيئة معبرة عن المشيئة الفردية للحاكم، فإذا كان نظام عبدالناصر لا يقر شرعية وجود أحزاب متعددة، فقد جاء النظام الذي تلاه ليعترف بالتعددية الحزبية نظامًا قانونيًا مشروعًا، ولكن بعد إفراغ الأحزاب من فاعليتها السياسية لتصبح مجرد لافتات على مقار دون فاعلية، بعضها ملحق بالدولة وبعضها يضيق عليه الخناق ويحرم من الوجود الفعلي، ليظل النظام في حقيقته نظام حزب واحد من الناحية الفعلية… وليبقى النظام مهتما دائما بكيفية الإبقاء على الهياكل والمباني، مع الإستيعاب للوظائف والمعاني، وكيفية الإبقاء على الأشكال مع تفريغ المحتوى، وكان لهذه الأساليب ولما استخدم فيها من أدوات، مساسٌ بالسلوك الفردي والجماعي، مما أصاب التكوين المؤسسي للدولة بأنواع من الوهن وفقدان المناعة، والإعتياد على مجافاة القول للفعل وتآكل المعاني، وتسمية الأمور بغير أسمائها، وإطلاق الأسماء على غير مسمياتها”.
لم يكن الدكتور حمادة حسني يعلم وهو يكتب كلامه المرير هذا، أن نظام حكم العسكر المعدل الذي أطاحت ثورة شعبية عارمة في الثامن والعشرين من يناير برأسه الممثل في شخص حسني مبارك، سيقاوم بشراسة مستميتة لإنشاء نظام عسكري بقناع جديد، يحرص فيه على تجديد أحلام جمال عبدالناصر في السيطرة التامة على البلاد والعباد، ويستفيد في نفس الوقت من أخطاء نظامي السادات ومبارك التي جعلت رجال النظامين ينشغلون بطموحات الفساد عن أهمية السيطرة، فهل ينجح رأس هذا النظام الجديد المشير عبدالفتاح السيسي في ذلك؟، هذا ما سنختم به حديثنا عن عودة دولة الجواسيس والمخبرين في الأسبوع القادم بإذن الله.