يلال فضل يكتب | خطاب إلى الرجل الصغير: لماذا تحب أن تظل صغيرا إلى الأبد؟ (1)
” أيها الرجل الصغير: إنهم يقولون لك بصراحة بأنك وحياتك وأطفالك وعائلتك لا قيمة لكم، بأنك غبي وعبد، وأنه بإمكان المرء أن يفعل بك ما يريد، إنهم لم يَعِدوك بالحرية الشخصية ولكن بالحرية القومية، وهم لم يَعِدوك باحترام الإنسان ولكن باحترام الدولة، ليس بالعظمة الشخصية ولكن بالعظمة الوطنية، ولأنك تجهل “الحرية الشخصية” و”السمو الشخصي”، في الوقت الذي يسيل لعابك كما تُسيِّل عظمةٌ لُعاب كلب، لكلمات مثل “الحرية القومية” و”مصالح الدولة” فإنك تهلل خلفهم، مع أنه لا أحد من هؤلاء الرجال الصغار دفع ثمن الحرية الحقيقية، إنهم يحتقرونك ولا يحبونك لأنك تحتقر نفسك، إنهم يعرفونك جيدا، يعرفون نقاط ضعفك الخبيثة التي عليك أنت وحدك معرفتها، وأنت تحملهم نحو السلطة على ظهرك، إنك وحدك من ترفع أسيادك، من تطعمهم، مع أنهم أسقطوا كل الأقنعة، لقد قالوا ذلك بوضوح لك: أنت إنسان من الدرجة الثانية، إنسان بلا مسئولية، وعليك أن تظل كذلك، ومع ذلك تُسمَّيهم “المُخلِّصون الجدد” وتُهلِّل خلفهم”.
كنت أتمنى أن يعود لي فضل كتابة هذه الكلمات، لكنها في الحقيقة مقتطف من كتاب (خطاب إلى الرجل الصغير) الذي كتبه عالم النفس النمساوي الشهير فيلهلم رايش في منتصف أربعينيات القرن العشرين، وترجمه إلى العربية رشيد بوطيب في كتاب صدر عن منشورات الجمل قبل أكثر من عشرة أعوام، ولم ينل ما يستحقه من اهتمام وقتها، ربما لأن الوقت الحقيقي لقراءته في رأيي، هو هذه الفترة الكئيبة التي نعيشها والتي عادت فيها بقوة وخسة ظاهرة قيام السلطة بتوظيف المواطن أو “الرجل الصغير” كما يسميه رايش لكي يعمل ضد مصالحه الشخصية، ولكي يقوم بخدمة مصالحها بعد أن اختطفت عقله وإرادته بفعل الخوف، وهو ما ينبه إليه فيلهلم رايش في مقدمة كتابه، عندما يقول إن الحكمة من كتابة خطابه كانت أن يحث الرجل الصغير لأن يتعرف على الواقع بشكل سليم، لأن هذه المعرفة ستجعله يتجنب التحول دائما إلى خدمة رجال السلطة، والذين أطلق عليهم رايش تسمية “الرجال الكبار – الصغار”؛ لأنهم مهما كبرت مناصبهم يظلون صغارا بداخلهم، وقد اختار لهم هذه التسمية، لكي يفرق بينهم وبين من أطلق عليهم وصف “الرجال الكبار”، أولئك الذين يطلبون دائما الحرية والحقيقة وينشرون المعرفة ويحاربون استثمار السلطات للخوف والجهل.
في مقدمة كتابه المهم والمؤلم، يقول فيلهلم رايش إنه كتب (خطاب إلى الرجل الصغير) كوثيقة إنسانية وليس كدراسة علمية، وأنه بدأ في كتابته في صيف سنة 1946 لكي يُحفظ في أرشيف مؤسسة أورغون التي كانت متخصصة في الأبحاث المتعلقة بالطاقة الحيوية للإنسان والتي كان يعمل لصالحها، وأنه لم يكن ينوي نشر الكتاب، لكنه عندما قررت الحكومة الأمريكية أن تقوم بخدمة تُجّار التحليل النفسي، وتقوم بتدمير الأبحاث التي عمل فيها ليس عن طريق إثبات أنها خاطئة، ولكن فقط عن طريق الحط من قيمتها، قرر أن يقوم بنشر هذا الكتاب كوثيقة تعبر عن الهزات الداخلية التي ألمت به كباحث علمي وطبيب “عاش عقودا طويلة بسذاجة في البداية، ثم بدهشة، وأخيرا بفزع وخوف، وهو يراقب ما يقترفه الرجل الصغير من الشعب دائما بحق نفسه، كيف تألم وتمرد ثم قدس أعداءه وقتل أصدقاءه، وكيف عندما حصل على السلطة أساء استغلالها واستعملها بوحشية تماما مثلما فعلت السلطة التي عانى منها في السابق”، مؤكدا أنه لا يهدف من نشر هذا الخطاب إلى أن يطلب تعاطف القارئ، لأنه لا يطالب بشيء سوى حق الباحث والمفكر في الكلام، وأن يتم رفض الطاعون الروحي الذي يمتلك نيات مبيتة لإطلاق سهامه المسمومة على الباحث الكادح، وأن يتعلم الرجل الصغير حرية التعبير ويستعملها من أجل الخير، على الأقل بنفس القدر الذي يستغلها به “الطاعون الروحي” من أجل الشر، معلنا عن إيمانه بأنه لو امتلك الناس نفس الحق في التعبير عن آرائهم، فسوف ينتصر العقلاني من هذه الآراء في النهاية.
بالطبع، لم يكن غريبا على رايش أن يتعرض للاضطهاد حين يعبر عن هذه الأفكار في ظل سيادة الفاشية بمختلف أنواعها في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العالم، خاصة أنه كان يتعرض لحرب شرسة من الكثير من منافسيه وكارهيه بسبب أبحاثه المثيرة للجدل والتي حاول أن يتمرد فيها على أفكار أستاذه عالم النفس الأشهر سيجموند فرويد، لتضطره تلك الصراعات المتزايدة إلى الهجرة للولايات المتحدة الأمريكية عام 1939، لكنه لم يسلم من العناء هناك، حيث طورد فيها بسبب أفكاره وكتاباته التي أثارت ردود فعل عنيفة، خصوصا مع تصاعد موجة محاكم التفتيش المعاصرة في تلك الفترة والتي قادها العديد من (الرجال الكبار – الصغار) كان من أشهرهم السيناتور “التافه” جوزيف مكارثي، ولأن رايش لم يكن يملك سوى حقه في الكلام، وهو حق لم تستطع للأسف قوة القانون أن تحميه، في ظل حملات التخويف من كل صاحب رأي مختلف والتي شكّلت هستيريا عمت المجتمع الأمريكي وسيطرت عليه، وفي ظل هذه الهستيريا تعرض رايش للسجن بسبب أفكاره وكتاباته، لتوافيه المنيّة وهو داخل السجن عام 1957.
في كتابه المهم، يخاطب رايش (الرجل الصغير) بمرارة شديدة مستغربا من رغبته في أن يهوي دائما بنفسه إلى الوحل الذي تعذب بداخله طويلا بالسابق، ويتهمه بالعجز عن انتزاع ما هو حق له، وعن حماية ما أحرزه من انتصارات والحفاظ عليها، ودون أن يلجأ إلى إلقاء اللوم على شماعة السلطة التي يحتلها (الرجال الكبار – الصغار)، يقول للرجل الصغير بكل صدق: “لقد عرفتُ من يستعبدك، أنت من تستعبد نفسك ولا أحد غيرك، هذه هي الحقيقة، لا أحد غيرك يحمل وزر عبوديتك.. وأنت وحدك من تستطيع أن تحرر نفسك، إنني أتشبث بهذه الجملة، أزعم أني مقاتل من أجل الصفاء والحقيقة، والآن وقد حان الوقت لقول الحقيقة حول وضعك، أتردد خوفا منك ومن موقفك من الحقيقة.
الحقيقة قد تشكل خطرا على الحياة، إذا ما تعلق الأمر بك، الحقيقة هي منقذة للحياة، لكنها تتحول أحيانا إلى ضحية لكل اللصوص، وإلا لما كنت الآن حيث أنت وكيف أنت… إن عقلي يقول لي: قل الحقيقة مهما كلف الثمن، والرجل الصغير بداخلي يقول لي: من الغباء أن تنزل بالحقيقة إلى الرجل الصغير، أن تقدمها له، الرجل الصغير لا يريد سماع حقيقته، إنه لا يريد تحمل المسؤولية الكبيرة التي تقع عليه، التي هي مسؤوليته أحب أم كره، إنه يريد أن يظل رجلا صغيرا”.
ولأن رايش درس بعمق كل نماذج القادة الفاشيين من مختلف التيارات التي عاصرها في حياته في أوروبا ثم في أمريكا، نجده يستخلص من دراسته تلك أن “الرجال الكبار – الصغار” درسوا بعناية شوق المواطن إلى أن يصبح عبدا طيعا، خاصة أنهم ينحدون من بيئة الرجل الصغير، وليس من القصور، لقد جاعوا مثله، وتألموا مثله، ولذلك فقد استطاعوا في زمن قياسي أن يوظفوا معرفتهم بالرجل الصغير لكي يسيطروا عليه، ويدفعوه للتضحية بكل شيء لكي يصل إلى عبوديته الجديدة، ولذلك لا يخفي رايش غضبه الشديد على الرجل الصغير الذي جعله يسلم قياده لأناس مثل هؤلاء، فقط لكي يهرب من تحمل مسؤولية الحرية، صارخا في مواطنه: “أنت مريض أيها الرجل الصغير، ليس هذا ذنبك، ولكن عليك تقع مسؤولية التحرر من مرضك، كان بإمكانك أن تكون منذ زمن قد تخلصت من نير المُتسلِّط عليك، إذا لم تصبر على المُتسلِّط ولم تقدم له يد المساعدة، ولو أنك كنت تملك ذرة احترام واحدة لنفسك، لما استطاع أي بوليس في العالم أن يتسلط عليك، لو أنك عرفت، حقا عرفت بأنه بدونك لا يمكن للحياة أن تستمر.
يجب أن تعرف أنك من صنع رجاله الصغار متسلطين عليه، ومن رجاله الكبار حقا شهداء، أنك أنت من قام بصلبهم وضربهم، وتركهم يجوعون، أنك لم تهتم بهم، ولا بتضحيتهم من أجلك… لقد كان بإمكانك أن تنتصر على جلاديك، لو أنك كنت في عمقك حيا ومعافى. إن جلاديك ينحدرون من صفوفك في الحاضر، كما كانوا ينحدرون في الماضي من الطبقات الراقية في المجتمع، إنهم أصغر منك أيها الرجل الصغير”.
في موضع آخر من كتابه وبعد أن يتأمل فيلهلم رايش كل صنوف المعاناة التي خاضها على مر التاريخ كل الذين حاولوا أن ينبهوا مواطنيهم إلى مخاطر الاستبداد والقمع والفاشية، فذاقوا المعاناة من مواطنيهم قبل أن يذوقوها من السلطات، يقوم بتكثيف هذه المعاناة قائلا في سطور مريرة: “أيها الرجل الصغير: إنك لا تستطيع أن تحس أو ترى الرجل الكبير، جوهره، ألمه، توقه، ثورته، نضاله من أجلك، هو ومن هم مثله بالنسبة لك أشياء غريبة، ولا تستطيع أن تفهم أن هناك رجالا ونساء غير قادرين على قمعك واستغلالك، رجال ونساء يريدونك حُرا، إنك لا تحب هؤلاء الرجال والنساء لأنهم غرباء عن جوهرك، إنهم بسطاء ومستقيمون.. إنهم ينظرون إليك ليس باستهزاء، ولكن بأسى على المصير الإنساني، ولكنك تحس بنفسك مراقبا، وتشعر بخطر يتهددك، إنك تعترف بهم أيها الرجل الصغير، فقط إذا ما قال لك العديد من الرجال الصغار إنهم رجال كبار، أنت تشعر بالخوف من الرجل الكبير، من قربه من الحياة ومن حبه لها، والرجل الكبير يحبك ببساطة ككائن حي، إنه لا يريد أن يراك تتألم، كما تألمت منذ آلاف السنين، ولا يريد أن يسمعك تتحدث في غباء كما تفعل منذ آلاف السنين، إنه لا يريدك أن تعيش كحيوان عامل، لأنه يحب الحياة ولأنه يريد من الحياة أن تكون خالية من الآلام والإهانة”.
وفي استرجاع لمعاناته الشخصية التي جعلته يتعرض للاضطهاد والنبذ بدعوى أنه غريب الأطوار، يتهم فيلهلم رايش الرجل الصغير بأنه يدفع بأفعاله أي رجل كبير مدافع عن حريته إلى الاختباء والألم يعتصر صدره؛ لأنه يفضل تجنب صحبة مواطنيه الذين يشفق عليهم ويتألم منهم، حين يراهم يتهمونه بأنه مجرم أو مريض عقلي وغريب الأطوار. “كل ذلك لأنه لا يعتبر هدف حياته أن يصبح غنيا أو أن يحقق زواجا مناسبا لبناته أو نجاحا سياسيا أو زينة بروفيسورية، إنك تسميه غريب الأطوار لأنه ليس مثلك، تسميه غير اجتماعي إذا ما اختار الانزواء رفقة أفكاره، بدل إنفاق الوقت في الثرثرة الفارغة لمجتمعاتك، إنك تقيسه بمقاييسك الصغيرة لتخلص إلى أنه لا تتوفر فيه شروط الرجل الطبيعي، إنك لا ترى وترفض أيها الرجل الصغير معرفة أنك تطرده، هو الممتلئ بالحب، والمستعد دوما لتقديم يد المساعدة إليك، تعتبره ثقيل الظل.. ما الذي جعله يبدو كما لو أنه خارج من عقود طويلة من الألم؟ أنت الذي جعلته كذلك، بفعل غياب ضميرك، ضيق أفقك، تفكيرك الخاطئ، ووثوقيتك الدينية التي لا تستطيع أن تصمد أمام عقد من التطور الاجتماعي”.
وهنا يضع فيلهلم رايش يده على نقطة شديدة الأهمية، هي أن قيام مجتمع الرجال الصغار بنبذ الرجل الكبير وإبعاده عن المجتمع، يشكل أمرا شديد الخطورة على صحة المجتمع وسلامته، لأن المدافع عن الحرية حين يتحول إلى منبوذ، تُزرع بداخله البذرة المخيفة للعزلة، وهي بذرة أن يشعر بالخوف من أن يعجز الرجل الصغير عن فهمه، وأن يسيء معاملته، لأنه في النهاية هو “الشعب، هو “الرأي العام”، هو “الضمير الاجتماعي”، ولأن الرجل الكبير يعي خطورة الوقوف ضد كل هذه المعاني، فهو يفضل غالبا أن يصمت وينعزل، متوحدا مع جراحه العميقة، التي لن تدفعه لمحاولة الانتقام من المجتمع، كما يفعل الإرهابيون مثلا، لأن ذلك الانتقام ربما أراحه من ألمه، بل هو على العكس سينشغل أكثر بمحاولة فهم لماذا تصرف معه الرجل الصغير بوضاعة، بينما هو لم يطلب منه سوى أن يحافظ على حريته، ولا يترك أصحاب المصالح يستغلونه، ولماذا قرر الرجل الصغير أن “يفقد كل توقٍ واشتياق إلى الأفضل بداخله، وأن يخنق ذلك التوق، بل ويقتله كلما اكتشفه في الآخرين، في أطفاله، في زوجته، في أبيه، في أمه، لماذا يحب الرجل الصغير أن يظل صغيرا”، وهكذا يستمر الرجل الكبير حين يتعرض للنبذ في طرح هذه الأسئلة المريرة المؤلمة على نفسه، فيزداد مرارة وألما وانعزالا.
لكن ذلك ما لم يفعله فيلهلم رايش، فهو لم ينعزل خوفا من الشعب أو الرأي العام أو الضمير الاجتماعي، بل قرر أن يواجه كل ذلك وأن يُخرج هذه الأسئلة إلى النور، وأن يدعو -بشجاعة دفع ثمنها غاليا- مجتمع الرجال الصغار لمواجهة حقيقته المريرة، لعله يتعلم في المستقبل كيف لا يقوم بتسليم نفسه لأصحاب المصالح الذين سيظلون صغارا حقراء وإن احتلوا أكبر المناصب وأخطرها.
المصدر:التقرير